إنَّا سنُرضيك في أُمتِك

0 0

صور ومظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في السيرة النبوية كثيرة، ولم يؤثر عن نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك الحرص والحب الشديد لأمته كما أثر عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال الله تعالى عنه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة:128). قال ابن كثير: "{عزيز عليه ما عنتم} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حريص عليكم} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم". وقال القرطبي: "عن الحسين بن الفضيل: لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: {بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة: 128)، وقال تعالى: {إن الله بالناس لرؤوف رحيم}(الحج: 65)". وقال السعدي: "أي شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتعزيره وتوقيره".

ومن صور حب نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته: شدة رحمته وكمال شفقته بها، واعتنائه واهتمامه بأمرها، حتى أنه بكى صلى الله عليه وسلم ورفع يديه داعيا لأمته وقال: (اللهم! أمتي أمتي)، فقال الله عز وجل: (يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)..
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم عليه السلام: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} (إبراهيم:36)، وقال عيسى عليه السلام: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}(المائدة:118)، فرفع يديه وقال: اللهم! أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل! اذهب إلى محمد، - وربك أعلم - فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) رواه مسلم.
هذا الحديث يوضح معنى الآية: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة:128). وفي الحديث: بيان لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الشفقة، والدعاء لأمته. وفيه: بيان المكانة العليا للنبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، حيث وعده سبحانه أن يرضيه في أمته ولا يسوؤه.. وفيه كذلك: بشارة عظيمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم..
قال النووي في "شرح صحيح مسلم": "هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد منها: بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم، ومنها: استحباب رفع اليدين في الدعاء، ومنها: البشارة العظيمة لهذه الأمة زادها الله تعالى شرفا بما وعدها الله تعالى بقوله: (سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك) وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها، ومنها: بيان عظم منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى، وعظيم لطفه سبحانه به صلى الله عليه وسلم. والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله صلى الله عليه وسلم: إظهار شرف النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بالمحل (المكان) الأعلى، فسيرضى ويكرم بما يرضيه، والله أعلم. وهذا الحديث موافق لقول الله عز وجل: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}(الضحى:5). وأما قوله تعالى ـ في الحديث ـ: (ولا نسوؤك) فقال صاحب التحرير (الإمام الأصبهاني وهو من أئمة السنة صاحب كتاب: التحرير في شرح صحيح مسلم): هو تأكيد للمعنى أي لا نحزنك، لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم ويدخل الباقي النار، فقال تعالى نرضيك ولا ندخل عليك حزنا، بل ننجي الجميع. والله أعلم".
وقال الطيبي في "الكاشف عن حقائق السنن": "اللهم ارزقنا شفاعة هذا النبي صلى الله عليه وسلم المكرم والشفيع المشفع يوم الدين، ولا تسوؤه فينا بأن تحرمنا شفاعته يا رب العالمين. هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد: منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه في أمرهم. ومنها: البشارة العظيمة لهذه الأمة المرحومة بقوله: (سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك)"..
وقال القرطبي في "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم": "ومعنى هاتين الآيتين: {رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم}(إبراهيم:36)، {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}(المائدة:118)، أن كل واحد من إبراهيم وعيسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لم يجزما في الدعاء لعصاة أممهما، ولم يجهدا أنفسهما في ذلك، ولم يكن عندهما من فرط الشفقة ما كان ينبغي لهما. ألا ترى أنهما في الآيتين كأنهما تبرآ من عصاة أممهما، ولما فهم نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك، انبعث بحكم ما يجده من شدة شفقته ورأفته وكثرة حرصه على نجاة أمته، وبحكم ما وهبه الله تعالى من رفعة مقامه على غيره، جازما في الدعاء مجتهدا فيه لهم متضرعا باكيا ملحا يقول: (أمتي، أمتي) فعل المحب المستهتر (المولع) بمحبوبه، الحريص على ما يرضيه، الشفيق عليه، اللطيف به، ثم لم يزل كذلك حتى أجابه الله فيهم، وبشره بما بشره من مآل حالهم، حيث قال له تعالى: (إنا سنرضيك في أمتك)، وهو معنى قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}(الضحى:5).. وهذا كله يدل على أن الله تعالى خص نبينا صلى الله عليه وسلم من كرم الخلق، ومن طيب النفس، ومن مقام الفتوة (حسن الخلق وبذل المعروف) بما لم يخص به أحدا غيره، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم}(القلم:4)، وبقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}(التوبة:128)، صلى الله عليه أفضل ما صلى على أحد من خليقته، وجازاه عنا أفضل ما جازى نبيا عن أمته. وأمر الله تعالى جبريل بأن يسأل نبينا عليه الصلاة والسلام عن سبب بكائه ليعلم جبريل تمكن نبينا في مقام الفتوة، وغاية اعتنائه بأمته صلى الله عليه وسلم"..
وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "وقد أرضاه الله في أمته ولله الحمد من عدة وجوه، منها كثرة الأجر، وأنهم الآخرون السابقون يوم القيامة، وأنها فضلت بفضائل كثيرة"...
وفي "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج": "(قال الله: يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك) فهذه هي البشارة العظيمة، والعطية الجسيمة، ينبغي للمسلم أن يكون دائم الشكر لله سبحانه وتعالى، أن جعله من أمة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأدخله تحت هذا الوعد العظيم"..

فائدة:
قال ابن القيم في تفسيره: "{ولسوف يعطيك ربك فترضى}(الضحى:5) ثم وعده بما تقر به عينه، وتفرح به نفسه، وينشرح به صدره، وهو أن يعطيه فيرضى، وهذا يعم ما يعطيه من القرآن، والهدى، والنصر، وكثرة الأتباع، ورفع ذكره، وإعلاء كلمته، وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القيامة، وما يعطيه في الجنة. وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار، فهذا من غرور الشيطان لهم ولعبه بهم، فإنه صلوات الله وسلامة عليه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى، وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسوله حدا يشفع فيهم، ورسوله أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن يدخل أحدا من أمتي النار، بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع في من شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أذن له فيه ورضيه. فصل: (الاغترار بالفهم الفاسد): ومنهم من يغتر بفهم فاسد فهمه هو وأضرابه (أشكاله) من نصوص القرآن والسنة، فاتكلوا عليه كاتكال بعضهم على قوله تعالى: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}(الضحى:5) قال: وهو لا يرضى أن يكون في النار أحد من أمته، وهذا من أقبح الجهل، وأبين الكذب عليه، فإنه يرضى بما يرضى به ربه عز وجل، والله تعالى يرضيه تعذيب الظلمة والفسقة والخونة والمصرين على الكبائر، فحاشا (أداة استثناء للتنزيه) رسوله أن يرضى بما لا يرضى به ربه تبارك وتعالى.."..

صور ومظاهر حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في السيرة النبوية كثيرة، ولم يؤثر عن نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذلك الحرص والحب الشديد لأمته كما أثر عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه.. وإذا كان هذا حبه صلوات الله وسلامه عليه لنا ـ كأفراد وأمة ـ فحري بنا أن نحبه من أعماق قلوبنا، وأن يكون حبنا له حبا صادقا، وذلك بتوقيره وطاعته، واتباعه والاقتداء به، قال الله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه}(الفتح:9). قال ابن تيمية: "التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه ، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال ، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار". وقال القاضي عياض: "اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه".. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة