- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:القرآن الكريم
(الاستفهام) هو طلب العلم بشيء لم يكن معلوما من قبل، وذلك بأداة من إحدى أدواته الآتية، وهي: الهمزة، وهل، وما، ومتى، وأيان، وكيف، وأين، وأنى، وكم، وأي، عندما تدخل هذه الأدوات على الجملة الخبرية، فإنه يستفهم بها عن أحد أمرين: إما عن النسبة، أي الحكم المفاد من الجملة، ويسمى (تصديقا) وهو إدراك النسبة بين شيئين، ثبوتا أو نفيا، وإما عن أحد أجزاء الجملة المسند أو المسند إليه، أو أحد المتعلقات، ويسمى (تصورا). وقد يخرج الاستفهام عن هذا المعنى إلى معان أخرى، هي ميدان الدرس البلاغي، ففيها تتجلى الفكرة، وتشرق الرؤية، ويبرز الإبداع.
وقد خرج أسلوب الاستفهام في القرآن الكريم عن مجرد الاستعلام، وهو الأصل فيه، وورد لإفادة معان أخر. وقد ألمح ابن عاشور إلى أن مجيء الاستفهام على غير معناه الحقيقي كثير في القرآن الكريم، وأن الغرض من هذا الأسلوب إعداد السامعين لتلقي ما يرد بعد الاستفهام، ووصف هذا الأسلوب بأنه من بديع أساليب القرآن. ومعلوم أن استعمال الاستفهام في غير معنى طلب الفهم، هو إما مجاز أو كناية. وهذا المقال يسعى لرصد هذا الأسلوب، والوقوف على تجلياته.
ورد أسلوب الاستفهام في القرآن الكريم مراد به التقرير في مواضع عدة، من ذلك قوله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن} (البقرة:260) فـ (الهمزة) استفهام تقريري على هذه الحالة، وعامل الحال فعل مقدر، دل عليه قوله سبحانه: {أرني} والتقدير: أأريك في حال أنك لم تؤمن، وهو تقرير مجازي، مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك.
ومن أمثلته قول الحق تعالى: {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} (المائدة:109) الاستفهام في قوله سبحانه: {ماذا أجبتم} غير وارد على حقيقته، بل مستعمل في الاستشهاد، ينتقل منه إلى لازمه، وهو توبيخ الذين كذبوا الرسل في حياتهم، أو بدلوا وارتدوا بعد مماتهم.
ومن الاستفهام الذي خرج عن بابه قوله سبحانه: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة:116)، وقد علم سبحانه كون الملائكة وعيسى منزهين برآء مما وجه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، والغرض أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريعهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم: وهو أنه ألزم، ويكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، وزاجرا لمن اقتص عليه".
ومنه قوله عز وجل: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} (الأنعام:12) الاستفهام في الآية مستعمل مجازا في التقرير. والتقرير هنا مراد به لازم معناه، وهو تبكيت المشركين وإلجاؤهم إلى الإقرار بما يفضي إلى إبطال معتقدهم الشرك، فهو مستعمل في معناه الكنائي مع معناه الصريح، والمقصود هو المعنى الكنائي. ولكونه مرادا به الإلجاء إلى الإقرار، كان الجواب عنه بما يريده السائل من إقرار المسؤول محققا لا محيص عنه، إذ لا سبيل إلى الجحد فيه أو المغالطة، فلذلك لم ينتظر السائل جوابهم، وبادرهم الجواب عنه بنفسه بقوله: {لله} تبكيتا لهم؛ لأن الكلام مسوق مساق إبلاغ الحجة.
ومنه قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به} (الأنعام:46) قوله: {من إله} استفهام مستعمل في التقرير، يقصد منه إلجاء السامعين إلى النظر في جوابه، فيوقنوا أنه لا إله غير الله يأتيهم بذلك؛ لأنه الخالق للسمع والأبصار والعقول، فإنهم لا ينكرون أن الأصنام لا تخلق شيئا؛ ولذلك قال لهم القرآن: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} (النحل:17).
ومن هذه البابة قوله عز وجل: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} (الأنعام:63) الاستفهام مستعمل في التقرير والإلجاء، لكون ذلك لا ينازعون فيه بحسب عقائد الشرك.
ومنه قول الحق تعالى: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين * ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين} (الأنعام:143-144) الاستفهام في قوله: {آلذكرين حرم} في الموضعين مستعمل في التقرير والإنكار، بقرينة قوله قبله: {سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم} (الأنعام:139).
ومنه قوله سبحانه: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} (الأعراف:49) الاستفهام في قوله: {أهؤلاء الذين أقسمتم} ليس على حقيقته، بل مستعمل في التقرير.
ومما خرج عن باب الاستفهام الحقيقي قوله عز وجل: {أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون} (النحل:17) فالاستفهام في قوله: {أفلا تذكرون} مستعمل في الإنكار على انتفاء التذكر، وذلك يختلف باختلاف المخاطبين، فهو إنكار على إعراض المشركين عن التذكر في ذلك.
ومنه أيضا قوله عز وجل: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا} (الكهف:103) افتتاح الآية باستفهامهم عن إنبائهم، استفهاما مستعملا في العرض؛ لأنه بمعنى: أتحبون أن ننبئكم بالأخسرين أعمالا، وهو عرض تهكم، لأنه منبئهم بذلك دون توقف على رضاهم.
ونحوه قوله سبحانه: {أليس في جهنم مثوى للكافرين} (العنكبوت:68) (الهمزة) في قوله عز وجل: {أليس في جهنم مثوى} للاستفهام التقريري، وأصلها: إما الإنكار بتنزيل المقر منزلة المنكر؛ ليكون إقراره أشد لزوما له، وإما أن تكون للاستفهام، فلما دخلت على النفي أفادت التقرير، لأن إنكار النفي إثبات للمنفي.
قال ابن عاشور: "وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي، ومنه قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح".
ومن مواضع الاستفهام التي تضمنت معنى التقرير قوله سبحانه: {قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله} (سبأ:24) ولكون الاستفهام غير حقيقي، بل مفيدا للتقرير، جاء جوابه من قبل المستفهم.
ومن الاستفهام الذي خرج عن معنى الاستعلام، وأريد به معنى التقرير، قوله تعالى: {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ:40) فسبحانه يعلم أن هؤلاء كانوا يعبدون الملائكة، فهو الذي {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} (غافر:19)، فالسؤال هنا لإفادة معنى التقرير، المراد منه تقريع المشركين وتبكيتهم، بما يقوم الحجة عليهم، يقول الزمخشري: "هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر: إياك أعني، واسمعي يا جاره".
وعلى هذا السنن قوله تعالى: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} (سبأ:45) لما كانت عاقبة الأقوام السابقة التي كذبت الرسل معلومة لدى الجميع، ولا تخفى على أحد، كان الاستفهام عنها ليس على حقيقته، بل المراد منه التقرير، والمراد من التقرير إقامة الحجة، وسد منافذ الذريعة، قال ابن عطية في معنى هذا الاستفهام: "و(كيف) تعظيم للأمر، وليست استفهاما مجردا، وفي هذا تهديد لقريش، أي أنهم معرضون لنكير مثله"، ويقول ابن عاشور: "و(كيف) استفهام عن الحالة، وهو مستعمل في التقرير والتفريع، كقول الحجاج لـ العديل ابن الفرخ: "فكيف رأيت الله أمكن منك"، أي: أمكنني منك، في قصة هروبه...وبني عليه الاستفهام التقريري التفظيعي".
وعلى هذا السبيل قوله تعالى: {أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين} (الصافات:58-59) الاستفهام موجه من هذا القائل إلى بعض المتسائلين، وهو مستعمل في التقرير، المراد به التذكير بنعمة الخلود، فإنه بعد أن أطلعهم على مصير قرينه السوء، أقبل على رفاقه بإكمال حديثه، تحدثا بالنعمة، واغتباطا وابتهاجا بها، وذكرا لها؛ فإن لذكر الأشياء المحبوبة لذة، فما الظن بذكر نعمة قد انغمسوا فيها، وأيقنوا بخلودها؟ ولعل نظم هذا التذكر في أسلوب الاستفهام التقريري لقصد أن يسمع تكرر ذكر ذلك حين يجيبه الرفاق بأن يقولوا: نعم ما نحن بميتين.
ومنه قول الباري سبحانه: {ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون} (غافر:69) قوله: {أنى يصرفون} استفهام مستعمل في التقرير، وهو منفي لفظا، والمراد به: التقرير على الإثبات.
ومنه قوله عز وجل: {عم يتساءلون} (النبأ:1) الاستفهام بـ (ما) في قوله: {عم يتساءلون} ليس استفهاما حقيقيا، بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر، نحو قوله تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين} (الشعراء:221) فهذا استفهام صوري، معناه الخبر كناية عن أهمية الخبر، بحيث إنه مما يستفهم عنه المتحسسون ويتطلبونه، فالاستفهام من لوازم الاهتمام.
ومنه قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق} (الطارق:5) الاستفهام في الآية ليس على حقيقته، وإنما مستعمل في الإيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه، كقوله تعالى: {من أي شيء خلقه} (عبس:18) أي: من أي شي خلق الله هذا الكافر، فيتكبر ويتجبر؟ أي: اعجبوا لخلقه، فالاستفهام هنا مجاز.
وتأسيسا على ما تقدم من أمثلة قرآنية، يتبين أن الاستفهام في القرآن الكريم جاء في العديد من المواضع غير مقصود به طلب الاستعلام، كما هو الأصل فيه، وإنما جاء بما يفيد التقرير، والمراد من التقرير إقامة الحجة، وجاء أحيانا ليفيد معنى التشويق إلى تلقي الخبر، وليفيد عرض التهكم بالذين مسوق الكلام لأجلهم، وجاء كذلك ليفيد معنى الإيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه ومعرفته.

المقالات

