إياكم ومحقرات الذنوب

0 1

عندما تقرأ هذا التحذير وتعلم أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي عليك أن ترعيه سمعك وقلبك، ولا تتركه يمر عليك مرور الكرام.. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لنا الناصح الأمين الذي لم يترك خيرا إلا وأمرنا به، ولا شرا إلا ونهانا عنه، وهذا التحذير من الشر العظيم الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام.

الذنوب صغائر وكبائر
من المعلوم ـ أيها الحبيب ـ أن الذنوب ليست كلها على ميزان واحد، وإنما قسمها الشرع إلى كبائر وصغائر:
فالكبائر: "كل ذنب ترتب عليه حد أو أتبع بلعنة أو غضب أو نار"، كقوله صلى الله عليه وسلم : (لعن الله الواصلة والمستوصلة)[متفق عليه]، وقوله: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سرق منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا)[مسلم]، وأشباه ذلك. وهذه الكبائر لابد لتكفيرها من التوبة النصوح، فلا يكفي في تكفيرها الأعمال الصالحة.. على ما قاله أهل العلم.

وقد نهى الشرع أشد النهي عن الوقوع فيها، وكثر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم التحذير منها، كقوله سبحانه: {قل إنما حرم ربى ٱلفوحش ما ظهر منها وما بطن وٱلإثم وٱلبغى بغير ٱلحق وأن تشركوا بٱلله ما لم ينزل بهۦ سلطنا وأن تقولوا على ٱلله ما لا تعلمون}[الأعراف:]، وقال: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا...} إلى قوله: {لعلكم تذكرون}[الأنعام:151- 152]، وفي سورة الإسراء كذلك {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه...} [الآيات من سورة الإسراء].

والنبي صلى الله عليه وسلم أيضا في سنته يحذر أمته من الوقوع فيها كقوله عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)[متفق عليه]... وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين - وجلس وكان متكئا فقال - ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).

وأما الصغائر: فهي ما لم يبلغ حد الكبيرة، وهي اللمم: كالنظر إلى النساء، وبعض الرفث، والبيع أثناء النداء للجمعة، ونحوها.
وقد ورد في كتاب الله أن من ترك الكبائر واجتنبها غفر الله له الصغائر وعفا عنها {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيـٔاتكم وندخلكم مدخلا كريما}[النساء:31).. وكذلك تكفرها الحسنات الماحيات والأعمال الصالحات؛ قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}[هود:114]، وكما في صحيح البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

تهاون الناس وتحذير النبي
فلما رأى بعض الناس ذلك كأنهم تهاونوا في الوقوع في الصغائر، وقلل البعض من خطرها، وتساهل البعض في إتيانها وغشيانها، فجاء التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم والتخويف من ذلك فقال: (إياكم ومحقرات الذنوب).

وسبب تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الصغائر أمور:
أولها: أن العبد محاسب عليها ومؤاخذ بها
قال سبحانه وتعالى: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين}[الأنبياء:47]. وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالبا)[النسائي وابن ماجه].

ثانيا: أنها تجتمع مع أخواتها حتى تهلك صاحبها
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه.. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن مثلا فقال: كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سوادا فأججوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها)[رواه أحمد، وصححه الألباني بطرقه].
يقول ابن القيم: "إذا يئس الشيطان من إيقاع الإنسان في ارتكاب الكبائر، فإنه يدعوه إلى ارتكاب الصغائر التي إذا اجتمعت على الإنسان ربما أهلكته".[التفسير القيم:613].

ثالثا: أنها تظلم القلب وتسوده
إذا لم يتب منها صاحبها ويستغفر الله تعالى؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}[رواه الترمذي وقال: حسن صحيح].
قال الغزالي: "صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى تفوت أهل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة".

رابعا: أنها سبيل للوقوع في الكبائر
فإن الصغيرة تصير كبيرة لأسباب:
ـ الإصرار عليها: روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار". وقال صلى الله عليه وسلم: (ويل للمصرين، الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)[رواه أحمد وصححه الألباني].
قال ابن بطال: "المحقرات إذا كثرت صارت كبارا مع الإصرار" [فتح الباري:11/337]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إذا أصر على الصغيرة صارت كبيرة، وإذا تاب منها غفرت".

ـ استصغارها واحقارها: قال الغزالي: "تصير الصغيرة كبيرة بأسباب منها الاستصغار والإصرار، فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله، وكلما استصغره عظم عند الله". وعن بلال بن سعد قال: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظم من عصيت).

ـ أن يكون ممن يقتدى به: فيقتدي الناس به ويعملون بعمله، وقد قال الله عز وجل لنساء النبي: {ينسآء ٱلنبى من يأت منكن بفحشةۢ مبينةۢ يضعف لها ٱلعذاب ضعفين ۚ وكان ذلك على ٱلله يسيرا}[الأحزاب:30].

ـ الجهر والإعلان: لأنه دليل على انتزاع الحياء من قلبه، والاستخفاف بالذنب وبنظر الله ونظر الناس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح و قد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه)[متفق عليه].

السلامة لا يعدلها شيء
وفي النهاية نقول: "إن السلامة لا يعدلها شيء، وإن غلق أبواب الفتن والبعد عن بواعث المعصية، وأماكن الزلل ومثيرات الشهوة ونوازع الشر، من علامات صحة العقل وكمال الإيمان.. ومن اقترب من الفتنة بعدت عنه السلامة، وكان على شفا جرف هار يوشك أن ينهار به، وترك المعصية أولى من انتظار العفو.. فاستجب لقول الناصح:
خـــل الذنــوب صغـيرها وكبــيرها ذاك الــتقى
واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـــرن صغــيرة .. إن الجبـال من الحصى

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة