سُنَّة التنوع بين واقع البشر ومهمَّة الإصلاح

0 4

من المحال أن يكون أي مجتمع صورة واحدة متطابقة، ومن الوهم الظن أن المجتمع برمته ينبغي أن يكون ملائكيا، بلا خطايا، ولا رغبات، ولا نزعات إنسانية، ولا جنون!

تلك طوباوية لا وجود لها إلا في ذهن حالم ما عرف سنن الله في خلقه، ولم يتأمل تاريخ البشرية، ولم يوفق لمعرفة كنه النفس الإنسانية.

منذ بدء الخليقة، انشطر المجتمع إلى قابيل وهابيل، خرجا من بيت النبوة ليشكلا نموذجا للتنوع والتدافع، وليرسما صورة ما ستكون عليه المجتمعات بطبيعتها، بعيدا عن وهم التوحد في نموذج أحادي، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (هود: 118).
فالاختلاف والتنوع بين البشر ليسا حالة استثنائية، بل جزء من سنة الله في الخلق، كما قال تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}
(الروم: 22). فالاختلاف بين الناس أمر طبعي، ولو كانوا على شاكلة واحدة لانتفت الحركة، وانطفأت جذوة الحضارة.

وقد أسس النبي ﷺ مجتمعا مسلما، وكان القرآن يتنزل عليهم، كان في ذاك المجتمع  أبو بكر، وعمر، وأبو ذر، وعمار وغيرهم، ومع ذلك وجد بينهم أفراد منهم من سرق، ومنهم من بقي على إدمان الخمر، وهناك من عاد إلى سيرته الأولى مرتدا.

 ولعل هذا التنوع في الخير والشر يعكس سنة التدافع التي أشار إليها القرآن بقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} (البقرة: 251). فالتدافع بين الصلاح والفساد يضمن بقاء التوازن في الأرض ويحول دون استشراء الفساد المطلق، بل إن الصراع بينهما يسهم في تشكيل حضارة قادرة على أن تتجدد باستمرار، وتصلح أخطاءها.

ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واختلاطها بغيرها من الأمم، أصبح التنوع أكثر وضوحا، ففي العصرين الأموي والعباسي، ترى في أحياء المدن الإسلامية مساجد إلى جانب مدارس لتعليم الغناء، ثمة عالم وشاعر ومغن وطبيب وحكواتي ومطبل وفقيه من حاشية السلطان، وآخر من مناوئيه.

إذن هذه هي طبيعة المجتمعات البشرية: تنوعها بحاجة إلى ثنائيات ترضي ضميرها، وتشبع تطلعاتها، وتلبي حاجات الإنسان الروحية والمادية، النبيلة منها والتافهة.
ولا يعني هذا التماهي مع المنكر، ولا التطبيع معه، ولا القبول به، لكن لا يحق لمن يشتغل بالدعوة إلى الله الاستعلاء على الخلق، والمناداة بالهلكة؛ لأن الناس ليسوا جميعا على التصور أو النهج ذاته، فذلك مخالف لقانون التدافع المجتمعي مذ وجد الإنسان على ظهر البسيطة. فالحرية في الاختيار جزء من الابتلاء الإلهي، كما قال جل شأنه: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}
(الملك: 2). قال الإمام البقاعي في نظم الدرر: "أي يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر لإظهار ما عندكم من العمل بالاختيار".

ولو أراد الله - جل مجده - أن يكون الناس شيئا واحدا لجبلهم على ذلك، وإنما خلقهم على ما ترون؛ لتحقيق مقصد الابتلاء، وإحياء سنة التدافع، ولإيجاد التوازن بين الخير والشر، والتفاوت بين درجاتهما.
ومن هنا تنبثق مهمة الإصلاح: أن يسهم المؤمن في إصلاح مجتمعه، وتعبيده لله، والأخذ بيده نحو الفطرة والحق، ليصل المجتمع إلى الله سالما معافى من آفات الطريق.

وعلينا أن ندرك أن الإصلاح لا يعني القضاء على التنوع أو محاولة صهر الناس في قالب واحد، بل يعني توجيه هذا التنوع وضبطه بما يخدم الغايات الكبرى التي خلق الإنسان لأجلها. فالناقد الذي يصوب الأغلاط، والمعلم الذي ينير العقول، والعالم الذي يحيي القلوب، والمبدع الذي يلهب المشاعر وينتزعها من غفلتها، كل هؤلاء شركاء في مهمة الإصلاح الكبرى، ولو بدت أدوارهم متناقضة في ظاهرها.

حينما وقف النبي ﷺ يخاطب أصحابه، كان يعلم أنهم ليسوا على درجة واحدة من الإيمان والتقوى، وكان يراعي اختلاف أحوالهم. رأيناه يشدد على أبي ذر في قوله: (إنك امرؤ فيك جاهلية)، في حين يعذر شخصا آخر لحكمة يراها، فالإصلاح يحتاج إلى الحكمة، وتقدير المآلات، وفهم السياقات.

وقد قضت سنة التاريخ، وإلماعات العقول، أن المجتمع لا يصلح بالقهر، ولا بالعزل، ولا بإعلان الحرب على الفنون والثقافات المختلفة، بل بالحوار والتوازن، وببناء منظومات قيمية قادرة على استيعاب هذا التنوع وإدارته بما يحقق العدل والخير.
ففي كل عصر، وجد من يتقن التعبير عن الجمال ويطرب الأرواح، ومن ينهض بالعقول ويثري الفكر، ومن يخدم الناس في حياتهم العملية والطبية. ولم يكن الإصلاح يوما بإلغاء هذه الأدوار، بل بتهذيبها، وتوجيهها نحو ما يليق بكرامة الإنسان وحضارته، فجوهر الإصلاح لا يكون بإلغاء الاختلاف، بل بتوجيهه نحو البناء.

وملاك الأمر، تبقى رسالة المصلحين الأولى هي أن يعيدوا للناس علاقتهم بالله، لا بإرغامهم على السير في طريق واحد، ولكن بتذكيرهم بمنزلة الفطرة التي خلقوا عليها، {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} (الغاشية: 21-22). ودعوتهم إلى الانسجام مع حقيقتهم العميقة التي تبحث عن الخير والجمال والحق.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة