- اسم الكاتب:خالد بُـرَيه
- التصنيف:القرآن الكريم
القرآن الكريم، بخطابه المتعالي، يتعامل مع الإنسان وفق فطرته؛ يعانق ضعفه، ويرفع من شأنه، ويراعي مشاعره، وكوامن نفسه، ودونك -مثلا- خطابه للمرأة، كيف تتجلى فيه الرحمة، والرعاية الإلهية في أوضح صورها؛ فقد رفع عنها أثقال الحزن، لا باعتباره عاطفة إنسانية طبيعية، بل لأنه لا يليق بمقامها الجليل ورسالتها السامية.
الرحمة الإلهية في قصص النساء: مريم وأم موسى
في قصة السيدة مريم عليها السلام، يتجلى أسمى معاني الرحمة الإلهية حين خاطبها الله في أصعب لحظات حياتها: {فناداها من تحتها ألا تحزني} (مريم:24). لتفتح بابا من الأمل والطمأنينة في لحظة بائسة كان فيها الحزن كفيلا بإغراق النفس في اليأس، والخوف، والتوجس، فموقف مريم كان يتطلب تسلية سماوية تنتشلها من وحشة الحال إلى سكينة المقام، وما أبلغ ما قاله العلامة ابن عاشور حين قال: "إن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية". ولعمري إن في هذه الكلمات تلخيصا بديعا لفلسفة الحزن كما يقدمها القرآن؛ حيث يصبح الحزن الناشئ عن ظلم أو ضرر نقيضا للكرامة التي وهبها الله لعباده.
وعند التأمل في سورة مريم تطالعنا ألفاظ {الرحمن} (مريم:45) {رحمت ربك} (مريم:2) {رحمتنا} (مريم:45) وهي من أكثر سور القرآن ذكرا لاسم (الرحمن) ولعل السبب في ذلك؛ أنها تصور حال امرأة طاهرة نقية تحمل بأمر الله، وتنقاد له، تسير منفردة في الصحراء، لتلد بمكان قفر، تحوطها المخاوف، خشية افتضاح أمرها، وما يحيط بكل ذلك من ضعف إنساني بالغ معهود، فناسب تكرار الرحمة، لمناسبة المقام، وحتى يشعر المتلقي بالرحمة الإلهية التي أحاطتها، واللطف الإلهي الذي نزل بها، والإيناس الذي خفف عنها أرق الوحشة.
أما في قصة أم موسى عليه السلام، نجد تكرار النهي عن الحزن بأساليب متعددة، مثل قوله تعالى: {ولا تخافي ولا تحزني} (القصص:7) وقوله: {كي تقر عينها ولا تحزن} (القصص:13) فقد نفى الحزن عنها في موضعين، ونهاها عن الحزن في موضع ثالث، وقد بين الإله جزعها وحيرتها، وذلك من الطبع البشري الملازم لضعف الإنسان، وإن كانت امرأة صالحة، فهي أم، يعتريها ما يعتري مثيلاتها من الخوف، والجزع، على الرغم من وعد الإله لها برد فلذة كبدها إلى أحضانها، مبشرا بقوام الشرف الرفيع، قال جل مجده: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} (القصص:7) ليسكن قلبها، وتهدأ روحها، وتفرح ببشارة الإله لولدها، وكل هذا تخفيفا عنها، ورأفة بها، ورحمة بحالها.
ومن أمعن النظر في هذا النهي تبين له أنه لا يخلو من دلالة عميقة؛ فهو يوجه النفس نحو اليقين والثقة بموعود الله، فالحزن ليس مجرد عاطفة عابرة، بل هو – في بعض أشكاله - مظهر من مظاهر ضعف الإيمان بوعد الله وتمام قدرته في أمره وحكمه، ولذا، كان الخطاب موجها ليعيد إلى النفس توازنها، ويؤكد أن الله يرعى عباده برحمة تتجاوز حدود الموقف الآني. والنهي عن الخوف والحزن (في حق أم موسى ومريم ومن شاكلهن) نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق. والحزن حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب، أو فقد حبيب، أو بعده، أو نحو ذلك، ويحسن بالمرأة أن تكون في منأى عن هذه الحال.
وعلى النقيض، تأمل قوله تعالى عن آل فرعون: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} (القصص:8) الحزن هنا لم يكن في سياق منع أو تخفيف، بل كان عقوبة لهم على ظلمهم وتجبرهم، هذه المقابلة المدهشة في سياق واحد بين النهي عن الحزن لنساء مؤمنات وجعله عاقبة لظالمين؛ تكشف عن حكمة قرآنية دقيقة؛ فالمرأة المؤمنة تستحق أن تحمى من الحزن، ودواعيه، لأنه لا يليق بها، في حين يصبح الحزن أداة عدل يوقعها الله بأعدائه.
رحمة الإسلام بالمرأة: مبدأ ترسيخ السكينة
وعندما ذكر القرآن نساء بيت النبوة أشار إلى ما أشار إليه آنفا في قصتي مريم وأم موسى، فقال تعالى: {ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن} (الأحزاب:51) فجمع بين قرار العين، وزوال الحزن، وكمال الرضا، وهذا ما يليق بهن! ولو ضممت إلى كل ذلك فعال النبي الأكرم ﷺ، وتعامله معهن، وبيانه الذي يشيد بربط المكارم بمقام الرجل من أهله؛ أدركت أن إحزان المرأة والإساءة إليها؛ رذيلة زائدة على العصيان والخطأ، وسياق الآيات يشعرك أنها جاءت حريصة بمنع الحزن عنهن؛ كأنه لا يليق بهن إلا البهجة والحبور، ويشعرك بثقله على النفس، ولهذا نوه النص القرآني عليه، وكما رفع الحزن عن النماذج التي ساقها، أراد لنا أن نسير على هذا الهدي القرآني بإبعاد المرأة عن مواطن الحزن والأسى.
وحكى لنا القرآن خبر امرأة شكت زوجها إلى النبي ﷺ متعمدة بتلك المجادلة الشكوى، منتهية (إلى الله) الإله العظيم الرحيم الذي أحاط بكل شيء علما، {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} (المجادلة:1) فسمع الله شكواها، وأنصفها، وأنزل ما يفرج عنها، ويزيل همها، ويقطع دابر حزنها، وإنك لتلحظ سرعة الاستجابة لشكواها، حتى لا يسربلها الحزن، وتذهب في ألمها كل مذهب، وهذا من اللطف الإلهي بها.
وإن التأمل في قصة آدم عليه السلام يفتح لنا نافذة أخرى لفهم هذا الخطاب القرآني، فالإثم كان مشتركا بينه وبين زوجه، لأنهما أكلا من الشجرة معا، لكن الخطاب الإلهي وجه إليه وحده مغبة الذنب، وتحمل غرم الإثم الذي اقترفاه: {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} (طه:117) ثم أبان عن وقوعهما في الخطيئة، لكن الغواية نسبت إلى آدم وحده كما نسب إليه الشقاء: {فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى} (طه:121) وكأن الله أراد أن يجنب المرأة وطأة الحزن الناشئة من الشعور بالذنب، تجنيبا لها من الوقوع في الحزن الذي لا تقوى عليه، والإحساس بوطأة الضمير الذي لا طاقة لها بحمله! ولذا، كان من حكمة الإسلام أن يبعد المرأة عن أسباب الحزن ما استطاع، لتبقى في حالة من الصفاء النفسي يؤهلها لحمل رسالة البناء الإنساني.
الأبعاد النفسية واللغوية في الخطاب القرآني
وقد نزل القرآن بألفاظ عزيزة منتقاة، تناسب السياق النفسي والموضوعي، كل كلمة وضعت في حاق موضعها بحيث لو أبدلتها بلفظة أخرى لما استقام المراد كما أراده الله، فألفاظه لها أرواح تحاكي العقل، وتلامس العاطفة، فتنير العقول، وتشرح الصدور، تأمل قول موسى لأخيه هارون: {يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} (طه:94) لم يقل "يا بن أب"، لما تحمله لفظة (الأم) من إيحاءات نفسية، وظلال عاطفية، إذ أراد أن يرقق قلب أخيه موسى عليه السلام لما تملكه الغضب، فأتى بلفظة رقيقة المعنى، متحققة في التأثير، رشيقة على اللسان، تقع في نفس المتلقي موقع الرحمة، (فللأم) أثر كبير في ترابط العلاقة بين الإخوة، فإذا كانوا من أم واحدة تكون العلاقة بينهم رحيمة، وثيقة، أكثر مما إذا كانوا من أب واحد والأم مختلفة، وذكر الأم في هذا الموطن يذكر بهذه العلاقة التراحمية بينهما التي لا يحسن أن يذيبها الخلاف، وتقتضي استدعاء الرحمة والعفو.
صفوة القول: إن المنهج القرآني في التعامل مع الحزن، وخاصة في حق النساء، يكشف عن رحمة إلهية تتغلغل في التفاصيل الدقيقة للنفس الإنسانية، فليس المقصود نفي الحزن كليا عن حياة الإنسان، بل ترشيده وتهذيبه ليكون في سياقه الطبيعي، بعيدا عن الإفراط الذي يهدم الروح، لكنه في سياقات أخرى يسمح به إذا كان خلوا من الجزع والسخط، مثل حزن يعقوب عليه السلام على يوسف، الذي عبر عنه بقوله: {إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله} (يوسف:86) وفي ظني أن من رحمة الله وألطافه الخفية بأم يوسف أنها توفيت في صغره -على قول بعض أئمة التفسير- قبل أن تعيش ما وقع ليوسف من إخوته، حتى لا تعاني مما عانى منه يعقوب، من حزن أمضه، وأذهب ضوء عينيه، وألم استبد به بسبب لوعة الفراق.
إذن، أراد الله للمرأة أن تعيش حياة مكرمة مليئة بالسكينة، بعيدة عن أوجاع الحزن، لتبقى رمزا للإلهام وصانعة للأبطال وزينة للحياة، أليس أبلغ ما يقال عن هذا الخطاب أنه يهدف للحفاظ على ابتسامة المرأة، لتظل مرآة تعكس نور الحياة، وعنوانا للطمأنينة التي أرادها الله لعباده؟