الجهل مطية الاستبداد

0 2

لقد كرم الله الإنسان وأورثه الأرض، مستخلفا فيها يعمرها، ويمشي في مناكبها حرا سيدا، مصون الكرامة، محفوظ الحرمة، لا يذل ولا يهان ولا يستعبد، تقوم علاقته بالآخر على الاحترام المتبادل، والحقوق والواجبات بميزان العدل.
وجاء الدين ليؤكد كرامة الإنسان، وشرف قدره، وأنه موفور الحقوق لا تختفر ذمته، ولا يعتدى على دمه، ولا يؤخذ ماله، ولا ينتقص عرضه.
لقد كان للإسلام منهج واضح يحرر الإنسان من نير الظلم والعبودية، ويرفع من شأنه ويعلي من قيمته: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}[الإسراء:70].

لقد أعلن الإسلام الحرب على الاستبداد من خلال تجريده من الأرضية التي يقف عليها؛ وهذا ما يلهم المسلم ويحرره من طواغيت الأرض. ولذلك فأن الأمة الجاهلة لا يمكن أن تعي مفهوم الحرية بمعناه الحقيقي، الذي هو التعبد لرب العالمين، والخضوع له رغبة، ورهبة، والسير في الاستخلاف بما يرضيه عز وجل، يقودها العلم الذي هو الوسيلة المثلى لتعبيد الناس لرب العالمين، كما أن الأمة الجاهلة لا يمكنها أن تلحظ المسخ الذي لحق بذاتها الفردية، والجماعية، ما دامت بلا بصيرة ونور، فهي غارقة في الشهوات البدائية اللصيقة بعالم الحيوانية، وهي بعيدة كل البعد عن عالم القيم والأخلاق، لذلك كان العلم بأدواته الكبرى أمضى سلاح جاء به الإسلام في حربه المفتوحة ضد الجاهلية، والاستعباد.

يقول المفكر مالك بن نبي رحمه الله: "الجهل في حقيقته وثنية لأنه لا يغرس أفكارا بل ينصب أصناما".
نعم إن الجهل عدو الحرية الأول، وهو مطية المستبدين لاستعباد خلق الله، وإظهار تميزهم واستعلائهم على الناس.
إن أدواء مثل الهوى، والتعصب، والتخلف، والانتكاس الفطري، والتوحش، والتقليد الأعمى، كلها نتائج للجهل والتجهيل الذي يمارسه المستبعد حتى ينقاد له الناس.

يقول الأستاذ محمد الأمين مقراوي: "... جاء القرآن ليخرج الناس من شر الرق السياسي، والاجتماعي، إلى دوحة الحرية، والتوحيد، ويخرج المجتمع من ظلمات الهوى، والتعصب، والفوضى، إلى التحضر والاستخلاف، ويغير النفوس، وينير العقول، ويلين القلوب، ويعيد للفرد بشريته، ويرد للمجتمع رحمته وتضامنه، وهذا ما فهمته قريش ورأت فيه خطرا عليها، فراحت تستخدم كل وسيلة لمنع الصدع بالحق والعلم، كالمكاء والتصدية مع النبي عليه الصلاة والسلام، والضرب والتعذيب في حق ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأجل كتم أنفاس الحق التي تحيي الروح من مواتها، وتخرجها من براثن الوثنية المسقية بماء الجهل، وهو ما يتكرر اليوم، فالمستبد يحارب العلم، ويقمع أهله، بالسجن، والنفي، والقتل حسب ضعفه وقوته؛ لأنه يدرك أن خروج الناس من وحل وثنية التجهيل؛ كفيل بردم ما شيده الباطل".

بلا شك جاء الإسلام برؤية واضحة منها تفكيك منظومة الاستبداد، من خلال ضرب الدعامة التي كان يستند إليها في ترسيخ التبعية، وهي القابلية للاستغباء والاستعباد.

وعلمنا الإسلام أن الجهل يبقى دوما المولد الأكبر للاستبداد الفردي والجماعي، ولهذا حث الله تعالى في كتابه على الاستزادة من طلب العلم والمعرفة فقال جل شأنه: {وقل رب زدني علما}[طه:114]، فكلما زادت تعقيدات المواجهة في دنيا المكابدة، ألح المسلم على طلب العون من الله في طريق مواجهتها بنور التعلم والتبصر.

ولابد أن ندرك أن أي مشروع حرب ضد المستبدين المحاربين للحق، لا تسبقه صولات وجولات ضد سياسات تعميم الغفلة الحضارية، يبقى مجرد حركات مفرغة من كل معنى، ولن تنال في الأخير إلا الفشل وتكريس الباطل وتقويته.

ولكن الملاحظ أننا نعيش اليوم مرحلة أكبر ميزاتها أن غالبية الناس تقرأ وتكتب، بل إن الملايين من المسلمين قد تخرجوا في آلاف الجامعات، والمعاهد والمراكز التعليمية المنتشرة في ربوع الوطن العربي والإسلامي، فهل هذا كاف لتحرر الإنسان ونيل مبتغاه؟.

يجيب الأستاذ محمد الأمين مقراوي على هذا التساؤل فيقول: "العلم إذ لم يؤد وظيفته صار كالجهل، بل صار أشد خطرا منه وفتكا، وقد وردت الإشارة إلى هذا في قوله تعالى في حق اليهود: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الـحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالـمين}[الجمعة:5]، في هذا الآية يتحدث القرآن عن فقدان العلم لفاعليته، حيث يصبح العلم ميتا، غير منتج ولا محرك للفرد والمجتمع".

إذن من أجل صلاح حياة الناس فإنه لا خيار للمسلمين من إشاعة العلم وإحياء فاعليته الحضارية، التي جاءت عشرات النصوص تتحدث عنها وترشد إلى وجوب إيجادها في الأمة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة