في صحوةِ الغائب: الذِّكر بوابة الحضور

0 3

حين تكون الكلمة من روح رجل عرف الله، فإنها لا تموت، بل تفيض حياة كلما مر بها قلب حي.
قرأت في غضارة العمر، للأستاذ الراحل الجليل محمد الغزالي (ت: 1996) جملة عبقرية عن معنى الذكر للإله وقعت في نفسي موقعا عظيما، أبت أن تبرح مكانها مذ تلقيتها، وبت أحملها وتحملني، كلما غفوت عن الذكر سمعت صداها يتردد في روحي، يقول الغزالي: إن ذكر الله ليس استحضارا ​​لغائب؟ إنما هو حضورك أنت من غيبة، وإفاقتك أنت من غفلة.
وأحسب أن الله ألهمه فأجرى على لسانه هذه الدرة الخالدة! فهذه الجملة انقلاب على كل تعريف جامد، ليست حيلة لغوية، بل كشف روحي، كأني به لا يقول لك: اذكر ربك، بل يقول لك: استيقظ، فالذكر الحق ليس رفع اسم الله على لسانك، بل رفع قلبك من غيبته، وسوق نفسك إلى حضرة الحق، وإخراجها من زمهرير الغفلة إلى دفء الأنس. وقد وقر في نفسي من جملته الملهمة أن الذكر ليس خطابا إلى الغائب، بل نداء للغائب فيك أن يحضر، ليس صلة بالله وحده، بل صحوك من سباتك الطويل، رجوعك من شتاتك، كشف الغشاوة عن بصيرتك.

وفي التنزيل العزيز إشارات تلتحم بهذا المعنى العميق، كما في قوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله}(سورة الحديد 16)، فليست الخشية لهيبة اسم مذكور، بل لحضور قلبي يتداعى له الكيان. يقول إبراهيم السكران: "لا أعرف سببا يجفف القلب ويقسيه مثل الغفلة عن ذكر الله، ولا أعرف سببا يحييه وينيره فورا مثل ذكر الله". أجل، فهو المنحة الكبرى التي يبقي الله بها حبل الوصل مشدودا بين العبد وربه، فإذا أدام الإنسان ذكر مولاه، توثق الحبل حتى لا تكاد تفصله عن الملكوت فاصل، ولا تحجبه عن السماء حجب.

وما الذكر إلا سلم الأرواح، من الطين إلى النور، ومن الغفلة إلى الحضور، حتى ترى العبد يسير بين الخلق، وروحه تناجي ربها في الأعالي، منسي في الأرض، مذكور في السماء، خامل الذكر بين الناس، مرفوع المقام في الملأ الأعلى.

ومن تأمل آيات الذكر في القرآن الكريم، وقف على مقام مكين، إذ أمر الله به في كل وقت وحين، فقال: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا}(سورة الأحزاب:41-42). ولم ترد صفة الكثرة في شيء كما وردت في الذكر، لأنها علامة حياة القلب، ليبقى حبل الوصل ممتدا دون انقطاع، وبراءة من النفاق، كما قال تعالى عن المنافقين: {ولا يذكرون الله إلا قليلا}(سورة النساء 142).

وقد قرن الذكر بالشدائد والمواقف العظام، مقرونا بكل الهيئات، والأحوال، حتى عند التقاء السيوف، ليظل القلب حيا لا يموت، حاضرا لا يغيب، متوجها لا يلتفت، وكأن القرآن يريد من متلقيه أن يكون يقظا، حتى لا ينزلق إلى مهاوي الغفلة المفضية إلى النسيان {نسوا الله فنسيهم}(سورة التوبة 67).

وفي مشهد مهيب من مشاهد القرآن، يلقى يونس عليه السلام في البحر، كما ألقي غيره، لكن الحوت لا يلتقم إلا واحدا، والنجاة لا تكتب إلا لواحد، والخلود في الذكر لا يناله إلا واحد. والسؤال: لماذا خص يونس بالذكر والنجاة دون سواه؟

يجيبنا القرآن: {فلولا أنه كان من المسبحين}(سورة الصافات 143).نجا بالذكر، وارتفع به، وتجلى سره:أن الذكر ليس عبادة عابرة، بل اصطفاء، وحرز، ونجاة، هو عمل الخواص، وسر الخلاص، وجوهر القرب. فمن وفق لذكر الله، فقد ذكر، ومن ذكر، نجا.

وحتى يحاط العبد بسياج الذكر ويقطع عنه كل سبيل إلى الغفلة، شرع له أذكار الصباح والمساء، كأنها طوق نجاة، ومن أنعم النظر فيها، سيجد أنها طافحة بكمال التوحيد، ومعالمه العظيمة، هي بوصلة لا تختل، تبقي الإنسان في فلك التوحيد، والتبرؤ من الشرك، والتعلق بغير الله، والنظر إلى الله وحده!

فانظر – مثلا - إلى ذكر من أذكار الصباح: أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملة أبينا إبراهيم، حنيفا مسلما، وما كان من المشركين. واقرأ هذا الذكر والدعاء كأنك تعلمته الآن: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. ولو قرأت كل ذكر ورد في أذكار اليوم والليلة، تجد كلها مؤطرة بتوحيد خالص، وعبودية نقية، وتفويض صادق، كأنما الذكر ماء الوضوء للقلب، يغسل أوضار الغفلة، ويعيد النفس إلى نقطة النقاء، وهذا الاقتران بين مقام الذكر والتوحيد من كمال الهداية، وسبيل من سبل التثبيت واليقين.

اقتران الصبر بالذكر
ومن العجائب التي توقف البصير وتثير مكامن الفكر، أن يرد ذكر الصبر في كتاب الله العزيز مشفوعا بالذكر (التسبيح) على وجه الخصوص، في غير موضع من التنزيل، كقوله سبحانه: {فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها}، وقوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين}(سورة الحجر 97-98).

وفي ظني أن الصبر، وإن عد من عرى الإيمان الوثقى، ومنازل اليقين العظمى، فإنه عمل ثقيل على النفس، عسير على الطبع، لا تطيقه النفوس، ولا تحتمله الأرواح المشوبة بالجزع والاعتراض، فهو يقتضي حبسا للجوارح، وتجميدا للانفعال، وتجاوزا لمقتضيات الطبع البشري حين يستفزه الأذى، ويستثيره الجفاء، أو يرهقه البلاء.

ولذا، كان لزاما أن يأوي المرء إلى استمداد قوة عظمى، قوة الله، وذلك بالانغماس في التسبيح بمفهومه الفسيح، إذ هو المعراج الروحي، والمحراب الذي تتساقط فيه أثقال الدنيا، ويصعد فيه القلب إلى معارج السكون، ويغترف من معين الطمأنينة ما يعينه على احتمال الأقدار، ومجالدة المكاره.

والتسبيح احتماء بعظيم، واستدرار لمدد السماء، والتحام شريف بعوالم الهبات الموصلة إلى الملكوت، ليحتمل المرء وعثاء الطريق، فهو قوة تخرس الجلبة، وتسكن الضجيج، وتطفئ لظى الفوضى الكامنة، حتى يصفو القلب على مرآة الرضا.

وما أفهمه، أن التسبيح سر من أسرار التوحيد؛ إذ لا يسبح القلب إلا إذا تجرد من شوائب السخط، وتخلق بأخلاق الربانيين الذين قال الله فيهم: "والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"(سورة البقرة 177).

ومن عجب أن يأتي الأمر بالصبر، لا في مقام التحمل وحده، بل في مقام الشهود، كقوله جل وعلا: "واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا"(سورة الطور 48)؛ وفيه تلميح بديع إلى أن الصبر حين يسكب في وعاء العبودية، ويمزج بالتسبيح، يثمر يقينا راسخا، وشهودا مستمرا لمعية الله، حتى ليخيل للمؤمن أن عناية الله تحوطه من فوقه ومن تحته، عن يمينه وعن شماله، فتذوب الشكوى، ويبرد لهيب الابتلاء.

فاجمع بين (الصبر والتسبيح) تكن من الخواص، وداوم على الذكر عند مسارب الضيق تكن من الذين استخلصهم الله لنفسه، وعلقهم بأعتابه، وأجرى على ألسنتهم تسبيحه، ليكون لهم جنة في الفتنة، وسكنى في العاصفة، وسلما إلى الرضا.

وتذكر دوما:
الذكر لا يصنع لك حضورا عند الله؛ بل يكشف حضور الله فيك، فيسقط الزيف، وتنكشف الأقنعة، ويقوم فيك العبد الذي ضل دهرا يبحث عن الطريق، فإذا به كان الطريق، وكان النشيد، وإن كنت ممن وهبهم الله الذكر، فلا تفلته، فإن فيه ظل الله حين تفقد الظلال، ودفؤه حين يبرد كل شيء.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة