- اسم الكاتب:خالد بُـرَيه
- التصنيف:ثقافة و فكر
الإنسان كائن مشدود بين نداءين متقابلين: أحدهما يدفعه للحياة، ويسكن فيه على هيئة غريزة البقاء، والآخر يشده نحو العدم، متجسدا في لحظات الانهيار القصوى.
تؤكد النظريات النفسية الحديثة، والمعالجات الوجودية في الفلسفة، أن السلوك الانتحاري لا يظهر فجأة، بل هو نتيجة تراكمية لخلل في العلاقة بين الإنسان وذاته، وبين الإنسان والعالم، حين يعجز عن العثور على معنى يحتمله، أو سند يرفعه من قاع الانكسار.
غريزة الحياة وظلال الفناء:
منذ وجد الإنسان على هذه الأرض، وهو متشبع بحب ذاته، يبتعد عن أي ضرر قد يلحق بنفسه، وهذه النزعة هي الأصل في فطرته ومسيرته، ولا ينحرف عنها إلا في حالتين: إما ارتقاء اختياري من أجل مبدأ يضحى لأجله، أو انكسار وجودي يدفعه إلى الهرب من الحياة نفسها عبر باب الفناء.
غريزة الحياة لا تقاوم، وهي التي تدفعه إلى الدفاع عن جسده وروحه، وتغذيه بالأمل في الغد، لكنها قد تخفت في لحظة معينة، لسبب أو مجموعة أسباب، فتبرز من أعماقه طاقة مظلمة، كامنة في الظل، تدفعه إلى تدمير كل شيء، تلك هي "غريزة الموت" الرابضة في أعماق النفس الإنسانية والمحركة للسلوك الانتحاري.
المنتحر ليس شخصا يريد الموت قدر ما هو إنسان فقد قدرته على الحياة، يرى نفسه داخل نفق معتم لا مخارج فيه، ويتحول في وعيه الضيق إلى أن القتل هو الخلاص الوحيد، لقد أصبح العيش ثقيلا، وأصبح الموت هو الطريق الأسهل للفرار كما يظن.
في عدد من المجتمعات العربية، بدأت ظاهرة الانتحار في تصاعد ملحوظ، ولا سيما في البيئات التي تعصف بها الحروب وتثقلها الأزمات، فالحروب تخلف آثارا مدمرة تطال كل جانب من جوانب الحياة، وتحدث اختلالا في المنظومة القيمية، وتصدعا في البنية الأخلاقية، مما يفتح الباب أمام تزايد حالات الانتحار، خصوصا في الفئة العمرية الممتدة بين الثامنة عشرة والخامسة والأربعين، وهي الشريحة الأكثر عرضة للهشاشة النفسية في مثل هذه الظروف.
يتجاوز كثير من الناس كل ما ألم بالإنسان المنتحر، ثم يستدعون "حرمة الفعل"، والعذاب المنتظر، مع أنهم قد يكونون أحد الأسباب غير المرئية لانهيار الضحية، ففي الأزمات تظهر معاني التعالي، والشعور بالصلابة المتوهمة، مقارنة بالإنسان الضعيف الذي لم يحتمل وجع الحياة، فاستدعى الخلاص.
إن مقاربة الانتحار من زاوية الفتوى فقط تظل ناقصة، لأن الحكم الشرعي معلوم، ولا يحتاج إلى إعادة تكراره، بينما الأوجب أن ننتقل إلى بحث العوامل، ومساءلة السياقات، وتحليل المسارات التي أفضت إلى اتخاذ قرار الموت، ودراسة الأسباب التي أفضت بالمنتحر إلى اقتحام ساحة الفناء، وسبر الواقع المتشكل من خليط البؤس والضياع والشعور بالعدم، فليس المطلوب تسويغ الانتحار، بل فهمه كعرض أخير لمأساة باطنة لم يلتفت إليها أحد.
لا خلاف في أن الانتحار محرم في أصل الشرائع السماوية يوم نزولها، كما أن آثاره لا تقتصر على الذات، بل تمتد لتترك ندوبا عميقة في قلوب الأهل، وتخلخل روابط المجتمع الحاضن.
وقد جاء الإسلام بتشديد قاطع في تحريمه، حماية للروح، وصونا للكرامة الآدمية، وردعا للضعف من أن يتحول إلى عدوى، وإنما علة التحريم أن الروح ليست ملكا لصاحبها، بل هي أمانة مودعة عنده، وليس له أن يتصرف فيها بما يشاء، ولا أن ينهيها متى شاء، لأنه ليس هو الذي أوجدها.
غير أن المعرفة بهذا الحكم لا تكفي وحدها لرد الناس عن السقوط، فكم من المنتحرين يعلمون ذلك، لكنهم سقطوا في لحظة ضاق فيها الأفق، وانهارت الأعمدة التي كانت تسندهم.
نعيش في لحظات حرجة، صنوف شتى من الآلام والأوجاع تجتاح الإنسان، وليس الجميع على قدر واحد من الصلابة، وتفهم الحياة، أولئك الذين يعلقون (بشكل مفرط) كل آمالهم على الحياة، يصابون بقدر كبير من الألم عند الخيبات، إن استحضار المعاني القرآنية: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)،وقول النبيﷺ: (يبتلى المرء على قدر دينه)، بروح حاضرة؛ تحجز صاحبها عن اقتراف جريمة الانتحار.
وهذا الاستحضار بحاجة إلى تربية، وتصحيح للمفاهيم، وبيان حقيقة الدنيا، وأنها دار عبور لا دار قرار، فعلام ينهي الإنسان حياته فيها وهو مستخلف فيها.
دورنا المجتمعي:
علينا أن نعطي شيئا من الاهتمام بالذين يمرون بوضع نفسي متدهور، وظروف قاسية، وابتزاز رخيص آثم، علينا أن نحاول تفهمهم، والوقوف معهم، وإخراجهم من دائرة البؤس والشقاء والإحساس بانتهاء الحياة، ومد يد العون إليهم، ومعالجة الظروف التي وقعوا في أسرها، "وملاحظة العلامات التي توحي بوجود فكرة الانتحار في مخيلته، كآثار الاكتئاب، وقلة الاهتمام بالأنشطة التي كان يستمتع بها في السابق، والغضب، والقلق، والشعور بالذل والعار"، وتقلب المزاج بصورة غير طبيعية، والتذمر من الحياة، وظلمها، وتمني الموت.
أي نية صريحة للانتحار يجب أخذها على محمل الجد والخطورة، فأحد الظنون الشائعة، أن الأشخاص الذين يتحدثون عن قتل أنفسهم لن يحاولوا ذلك بالفعل، أو أنهم يصرحون بنياتهم لكي يلفتوا انتباه الآخرين فحسب، وهذا غير صحيح دائما، "حيث إن الأطباء النفسيين يؤكدون أن التصريح بالرغبة في الانتحار، وتأمله والتخطيط له، مؤشر خطير لا ينبغي التقليل من شأنه".
الانتحار محزن وكئيب، وهو تصرف مأزوم لا يعكس جبنا بقدر ما يكشف عن فراغ داخلي مهول، لا يرى غير الفناء خلاصا، ويصبح الانتحار أكثر بؤسا وكآبة حين يترك المنتحر قصاصة ورقية، يكتب فيها "أخبرتكم أنني سأنتحر.. لكنكم لا تسمعون". فأصغوا إليهم قبل أن يتدلى الجسد، وتصعد الروح، ونبكي وجع الرحيل. وربما، لو أنصتنا في الوقت المناسب، لكان في الحياة متسع، وللألم مخرج، وللروح مرفأ نجاة.
ختاما:
علينا أن ندرك أن الانتحار ليس هروبا من الحياة بقدر ما هو صرخة استغاثة لم تجد من يصغي، وقرار مأساوي ينبثق من لحظة فقدان الأمل وانقطاع السند، لا من ضعف طارئ أو جهل بالحكم.
وإذا كانت الشريعة قد حرمت الانتحار تحريما قاطعا، فإنها في الوقت ذاته توجب علينا حماية الروح من أسباب الهلاك، ورد البائس عن حافة اليأس، والنزول إلى قاعه بقلوب مفتوحة، لا بأصابع اتهام.
فمن لا يجد في الحياة من ينقذه، سيبحث عن الموت بيده، وإن أول أبواب المواجهة أن نبصر هؤلاء قبل أن يختفوا، وأن نصغي إلى معاناتهم قبل أن يدونها نعش في مقبرة، هذه الأرواح مرآة المجتمع، وما يصيبها إنما يكشف عن خلل فينا جميعا.
فلنصغ، لعل الإصغاء يكون حياة، ولعل الكلمة تكون جسرا يرد إنسانا من حافة الانهيار إلى طريق النجاة