سورة الأنبياء: حين تُروى النبوة بلسان الافتقار

0 1

من أعظم مفاتيح التدبر في القرآن: الوقوف عند بنية السورة واسمها، فإن كل سورة في الكتاب العزيز إنما سميت بتوقيف أو ما يجري مجراه، ووراء الاسم سر من أسرار الدلالة، لا يتكشف إلا لمن فتش عن وحدة المعنى الكلي، وربط بين مطالع السورة ومقاصدها ومسك ختامها.

فبعض السور سميت بأسماء أنبياء، لا لكونها تسرد قصصهم، بل لأن في ذكرهم ما يفصح عن غرض أعلى، وبعضها سمي بموضع أو حادث أو كائن، للدلالة على لحظة مركزية تلتف حولها مقاصد السورة، كما في البقرة والنمل والحديد، ومن تدبر وجد أن اسم السورة ليس علامة تعريف، وإنما هو مفتاح تأويل، يهتدي إليه من فتح له باب التدبر.

وفي هذا السياق تأتي سورة الأنبياء، التي قد يخيل لقارئها أول وهلة أنها ستكون أطول سجل قرآني لحياة الرسل، فإذا به أمام عرض وجيز، لا يشبع حب الاستقصاء، ولا يعيد رسم الوقائع كما عهدناه في سور أخرى، كسورة يوسف والأعراف، ولكن التأمل يكشف أن السورة لا تهدف إلى توثيق المسار النبوي، وإنما إلى كشف جوهر النبوة، ومركز رسالتها، وسر وحدتها عبر التاريخ.

أين السرد القصصي في سورة الأنبياء؟

وأنت تتلو سورة الأنبياء، يخطر ببالك أنها ستقص أخبارهم على نسق سردي مفصل، تبين مقاماتهم مع أقوامهم، وتعرض لك مجريات دعوتهم، كما في بعض السور المطولة، ولكنك لا تلبث أن تدرك أن السورة لم ترد ذلك، ولم تعن بسرد الوقائع كما تعنى التواريخ، بل عرضت ذكرهم لماما، وبما هو أوجز من ورودهم في غيرها من السور، ثم تؤخذ على غرة، إذ يتهاوى أفق التوقع، وينكشف قصد أرفع من السرد، لتسأل: لم سميت إذن بسورة الأنبياء؟!

ما ظهر لي أن السورة لم تقصد تتبع قصص الأنبياء تتبعا دقيقا، بل حقيقتهم، ولم تعن بمساراتهم المعهودة مع أقوامهم، وإنما بما يجمعهم تحت لواء الرسالة الخاتمة، فجاءت تنسج من أنفاسهم المتعاقبة نفسا واحدا، يوحد خط النبوة، ويضعهم في سياق الرسالة الكبرى التي تفسر مجرى التاريخ البشري: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (الأنبياء:25).

وإذا تتبعت نسق السورة، ألفيتها تقابل بين النبوة والغفلة، فتستفتح بمشهد الغافلين السادرين: {اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون} (الأنبياء:1) وكأنها تصف سنة الله التي لا تتبدل: كلما استحكمت الغفلة في أمة، بعث الله نبيا ينذرها، فيكون صوته صرخة نذير توقظ النائمين، وختمت بجوهر الرسالة: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107) للربط الوثيق بين دعوة الغافلين والرحمة بهم.

وللسورة ملمح دقيق آخر، بيانه على النحو الآتي:

وهو طريقتها في عرض مشاهد الأنبياء؛ فكلهم يظهرون في لحظة افتقارهم إلى الله، وانقطاع حيلتهم إلا من الاستغاثة به، ثم تأتي الاستجابة كما الوعد المحتوم:

{ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له} (الأنبياء:76)

{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له} (الأنبياء:83-84).

{وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له} (الأنبياء:87-88).

وكأن السورة تعيد تعريف "النبي" في الوعي الجمعي؛ فالناس يربطون النبوة غالبا بالمعجزات، أو التشريع، أو القيادة، لكن هذه السورة تقدم صورة مختلفة: النبي الإنسان الذي يكون أقرب ما يكون إلى الله حين تشتد الأزمات، إنه المستغيث الذي لا يجد ملجأ إلا إلى الله، وهذا ما يربط النبوة بمفاهيم الابتلاء والصبر والاستجابة الإلهية، لا فقط بالحكم والتشريع، مع الإشارة لملمح عزيز أن الخلود للدعوة وأنوارها، {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون} (الأنبياء:34).

وهذا التقديم لا يخلو من إشارة للنبي محمد ﷺ، فالسورة ترسم له الطريق، وتضرب له مثل إخوانه الذين سبقوه، وتلقنه سنة من مضى من المرسلين، أن يستمسك بالصبر، ويعتصم بالله، ويتترس بحماه من أذى قريش وطغيانها، كما فعل إخوانه من قبل.

إذن، سورة الأنبياء لا تسرد تفاصيل قصص الأنبياء مع أقوامهم، بل هي بيان لحقيقة النبوة، وكشف لسرها الممتد في التاريخ، ودورها الأزلي في انتشال البشرية من وهدة الغفلة إلى نور التوحيد، لذا جاء اسمها بصيغة الجمع "الأنبياء"، ليدل على أن الرسالة واحدة، والنبوات سلسلة متصلة، تفيض من مشكاة واحدة، ليست حوادث متفرقة، ولا فصولا من التاريخ منفصلة عن سياقها، بل سنة إلهية دائمة، تجري كما تجري الشمس في مدارها، لا يبدلها زمان، ولا يقطعها خطب، {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92)

ختاما

ما كان هذا النسق ليعرض إلا ليقال للنبي الخاتم: هذا ميراثك، وهؤلاء إخوانك، وهذه سنتك في العالم.

ولذلك سميت سورة الأنبياء، لا لأنها تأريخ لهم، وإنما لأنها تمثيل لحقيقتهم: صوت واحد يوقظ الغافلين، ونداء مستمر في ذاكرة البشرية، ونور واحد يتوارثه الرسل، حتى بلغ غايته في قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء:107).

 

فهي سورة الأنبياء لأنهم اجتمعوا فيها على المعنى، لا على العدد؛ واختزلت سيرهم في موقف واحد: لحظة الافتقار الكامل إلى الله، وفي تلك اللحظة، تبرز النبوة في أبهى صورها: نداء خاشع، واستجابة رحيمة، وسنة تمضي في الخلق، يتوارثها المرسلون، ويختمها من بعث رحمة للعالمين. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة