سوء المعاملة... انحدار في هاوية الأخلاق

0 0

في زمن باتت فيه قلوب بعض الناس أقسى من الحجارة، والنفوس تضيق كأنها في قيد حديدي، تفشت آفة تهدد جوهر الإنسانية، وتقضي على أنبل ما في المرء: كرامته. إنها سوء المعاملة، سلوك لا يعرف لذوق طريقا، ولا لرفق معنى، يتسلل إلى البيوت والمدارس، إلى الأسواق والمكاتب، حتى بات وجها مألوفا بيننا، لكنه في ميزان الشرع... مرفوض مذموم.

الشرع الشريف... دعوة إلى الرحمة واللين
من تأمل كتاب الله تعالى، وجد كثيرا من الآيات تحث على الكلمة الطيبة، والمعالمة الحسنة، وتنهى عن الأذى بكل صوره، قال تعالى:{وقولوا للناس حسنا} [البقرة: 83].. وكلمة "الناس" جاءت مطلقة، لا تقيد بجنس ولا دين ولا لون، فالحسن في القول والمعاملة واجب عام، وفضيلة تليق بأصحاب النفوس الكريمة.

ويقول الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما} [النساء: 148].
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك ويمقته ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة التي تسوء وتحزن، كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك؛ فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلام الطيب اللين. وقوله: {إلا من ظلم} أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه، ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال تعالى: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله}.. {وكان الله سميعا عليما} ولما كانت الآية قد اشتملت على الكلام السيئ والحسن والمباح، أخبر تعالى أنه {سميع} فيسمع أقوالكم، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن. {عليم} بنياتكم ومصدر أقوالكم".

وقال تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا . ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا . كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها} [الإسراء:36-38].
فالواجب على الإنسان، وقد علم أنه سيسأل عن كل ما قاله وفعله، وعن كيفية استخدم جوارحه التي خلقها الله لعبادته، أن يعد جوابا لهذا السؤال، ولا يكون ذلك إلا بأن يستعمل جوارحه في طاعة الله، ويخلص له الدين، ويجتنب ما يكرهه الله، ومما يكرهه الله تعالى الإساءة إلى الناس بغير سبب يبيح ذلك.

ويأتي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليجسد هذه المعاني، فلا يؤذيه أحد إلا ويدعو له، ولا يساء إليه إلا ويقابل بالإحسان، ويقول في الحديث المتفق عليه: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
وهل هناك أبلغ من هذا المعيار؟ فالإسلام الحقيقي ليس مظاهر، بل توحيد وإيمان وسكينة تنبع من القلب، تترجم إلى معاملة فيها أدب، ورحمة، وإنصاف.

وخطب النبي صلى الله عليه وسلم يوما بالطائف فقال: (يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار. قالوا: بم ذاك يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيء. أنتم شهداء الله، بعضكم على بعض) [رواه ابن ماجه وغيره]. ولن يثني الناس علينا بخير إذا كنا نعاملهم معاملة سيئة.

وقال أيضا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه) [رواه مسلم].
أيعقل بعد هذا أن يسيء المرء لمن ولاه الله عليه؟!

وعندما قال له رجل: يا رسول الله، إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها؟ قال: (هي في النار).

ويعلن صلى الله عليه وسلم بوضوح أنه (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء) [الترمذي، وصححه].

وجوه من القبح... لا يرضاها دين ولا فطرة
سوء المعاملة ليس لونا واحدا، بل لوحات من الظلم والقسوة، نراها في:
. من سب المسلم وشاحنه وأفشى سره وطعن في نسبه وغير ذلك.
. من هجر المسلم واعتدى عليه بالضرب أو الإشارة بسلاح.
. الأب الذي يضرب أبناءه ويقسو عليهم بغير حق، فينبت في قلوبهم الحقد بدل الحنان.
. الزوج الذي يصرخ في وجه زوجته، ويضربها، ويبخل عليها، وكأنها عدوة لا شريكة عمر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(استوصوا بالنساء خيرا) [رواه مسلم].
. المسؤول الذي يذل من تحته، فينسى أن الكراسي لا تدوم.

السلف الصالح... كانوا كنسيم الربيع
كانوا إذا غضبوا، سكتوا، وإذا أساء إليهم أحد، عفوا. قيل للحسن البصري رحمه الله: من أفضل الناس؟ قال: "من إذا أسيء إليه غفر، وإذا ظلم صبر، وإذا قطع وصل".
وكان عمر بن عبد العزيز إذا دخل عليه صاحب مظلمة، خلع نعليه تواضعا، ورفع يده إلى السماء قبل أن يرفعها إلى الناس.

أما نحن، فقد خسرنا كثيرا حين ظننا أن الهيبة في الغلظة، وأن الحزم في الصوت العالي، ونسينا أن أعظم القادة كان ألينهم قلبا، وألطفهم لسانا، وأرفقهم بالخلق.

العودة إلى الأخلاق... عودة إلى الفطرة وطيب الأصل
سوء المعاملة ليس مجرد خطأ اجتماعي، بل انحراف عن المنهج الرباني، وتعد على فطرة الإنسان.
ولن تصلح القوانين ما أفسدته الأخلاق، ولن تبني الحضارة يد تؤذي، أو لسان يجرح، أو نفس تتكبر.
فلنعد إلى قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [رواه أحمد].
ولنجعل من حسن الخلق راية نرفعها في وجوه الجفاة، ومن اللين سلاحا نواجه به قسوة القلوب، عسى أن تعود أرواحنا إلى نقائها الأول.

ختاما...
الأخلاق الحسنة، وكف الأذى، وإحسان المعاملة، واجتناب الإساءة، عبادات يرجو صاحبها من الله عليها الأجر والثواب وأعل المقامات. فلنحسن، ولو أساء الناس {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}[فصلت: 34].
ولنرفق، ولو جفت الألسن.

ولنتذكر دائما أن أحب المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحسنهم أخلاقا، السهل الهين اللين، الذي يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة