تأملات فقهية في حادثة الإفك

0 0

رغم أهمية الحوادث وكثرتها التي وقعت في غزوة بني المصطلق؛ إلا أن حادثة الإفك التي وقعت فيها تظل الحدث الأكبر والأهم، باعتباره حدثا نال من عرضه صلى الله عليه وسلم، وهز المدينة المنورة، ومايز الصفوف فيها، وفوق ذلك فتر الوحي عن بيان حقيقة ما جرى قرابة شهر، ثم أنزل تعالى آيات تجلي حقيقة ما حدث.

أولا: حديث الإفك
روى أهل الحديث والسير حادثة الإفك حين اتهم المنافقون عائشة رضي الله عنها بصفوان بن المعطل رضي الله عنهما، وممن روى هذه الحادثة البخاري ومسلم وأبو داود وابن اسحاق، وهذا خلاصة ما ذكروه: "قالت عائشة رضي الله عنها: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، آذن ليلة بالرحيل. فقمت إلى بعض شأني، فلما رجعت إلى الرحل لمست صدري فإذا عقدي قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، قالت وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني فاحتملوا هودجي -وكان ذلك بعد نزول آية الحجاب- فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه.. فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فيممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، وكان صفوان بن المعطل من وراء الجيش فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان، فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب. وكنت قد غلبتني عيناي فنمت، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه. وهوى حتى أناخ راحلته، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة، وهم نزول، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.
قالت: واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا، والناس يفيضون في قول الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، غير أني لا أعرف من رسول الله عليه الصلاة والسلام اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ فلما نقهت خرجت ذات ليلة مع أم مسطح لقضاء حاجة -ولم نكن قد اتخذنا الكنف- فلما رجعنا عثرت أم مسطح في مرطها، فقالت تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا قد شهد بدرا؟!. قالت أولم تسمعي ما قال؟ قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي.. وبكيت تلك الليلة حتى أصبحت، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أصحابه في الأمر وفي فراق أهله، فمنهم من يقول: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، ومنهم من يقول: لم يضيق الله عليك، النساء كثير، واسأل الجارية -يعني بريرة- تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، وسألها: هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ فأخبرته أنها لم تعلم عنها إلا الخير. فقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، فقال: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا. فقام سعد بن معاذ، فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله. إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فتلاغط الناس في المسجد حتى أسكتهم رسول الله.
ثم دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبواي عندي، وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء. قالت: فتشهد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة. فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال والله لا أدري ما أقول. فقلت لأمي: أجيبي عني، فقالت والله ما أدري ما أقول، فقلت: والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فإن قلت لكم إني بريئة -والله يعلم أني برئية- لا تصدقوني في ذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر-والله يعلم أني بريئة- لتصدقنني. إني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، قالت: ثم تحولت فاضطجعت على فراشي.
قالت: فو الله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، ولا خرج من أهل البيت أحد، حتى أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشات من ثقل القول الذي أنزل عليه، قالت: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه (أي اشكريه)، فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي. قالت فأنزل الله عز وجل (إن ٱلذين جآءو بٱلۡإفۡك عصۡبةٞ منكمۡۚ لا تحۡسبوه شرٗا لكمۖ بلۡ هو خيۡرٞ لكمۡۚ لكل ٱمۡريٕٖ منۡهم ما ٱكۡتسب من ٱلۡإثۡمۚ وٱلذي تولى كبۡرهۥ منۡهمۡ لهۥ عذاب عظيمٞ) [النور: 11]. قالت: وكان أبي ينفق على مسطح لقرابته منه ولفقره، فقال: والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: (ولا يأۡتل أولوا ٱلۡفضۡل منكمۡ وٱلسعة أن يؤۡتوٓا أولي ٱلۡقرۡبى وٱلۡمسكين وٱلۡمهجرين في سبيل ٱللهۖ ولۡيعۡفوا ولۡيصۡفحوٓاۗ ألا تحبون أن يغۡفر ٱلله لكمۡۚ وٱلله غفورٞ رحيم) [النور: 22]. فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه. ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله تعالى من القرآن في ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدهم"
 
ثانيا: تأملات فقهية
حادثة الإفك حلقة فريدة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه المنافقين، وقد كانت هذه الأذية أشد في وقعها على نفسه صلى الله عليه وسلم من كل المحن التي مرت به، ولكنها تجلت في نهايتها على فوائد ودروس عظيمة منها:
1. أنها جلت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بشرا كغيره من البشر بعد أن فاجأته هذه الحادثة كما فاجأت غيره من الناس، وأنه صلى الله عليه وسلم ظل شهرا ينتظر أن تتجلى له الحقيقة فيه، حتى نزل عليه الوحي من الله يخبره بالحقيقة. أي إن النبوة لم تخرجه صلى الله عليه وسلم عن كونه بشرا لا يعلم الغيب. وأن الوحي إنما هو بأمر الله تعالى وإرادته، وليس انبثاقا نفسيا يحدثه رسول الله لنفسه كما حاول المستشرقون وأمثالهم أن يصوروه، بل ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم إرادة ولا مشيئة في حدوثه، ولو كان له ذلك لكان من السهل عليه أن يحدث ذلك لنفسه، ويجلي حقيقة الإفك للناس ويظهر براءة أهله، بل ظل صلى الله عليه وسلم ينتظر؛ حتى شاء الله تعالى أن ينزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم.
2. في قصة الإفك هذه ما يدلنا على مشروعية حد القذف. فقد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأولئك الذين تفوهوا بصريح القذف، فضربوا حد القذف وهو ثمانون جلدة. وليس في هذا من إشكال. وإنما الإشكال في أن ينجو من الحد الذي تولى كبر هذه الشائعة وتسييرها بين الناس، وهو عبد الله بن أبي بن سلول، والسبب كما قال ابن القيم: "كان ‌يستوشي الحديث ويجمعه ويحكيه ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه، وقيل: الحد لا يثبت إلا بالإقرار أو ببينة، وهو لم يقر بالقذف، ولا شهد به عليه أحد، فإنه إنما كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين". وعلى المؤمن أن يحتاط لألاعيب أمثاله عند نزول الحوادث.
3. أن الله تعالى قد يؤخر بيان حقيقة بعض الأحداث التي تقع للناس؛ حتى يمايز بها الصفوف، ويظهر الصادق في إيمانه من المنافق والكاذب. فعلى المؤمن أن يعتصم وقت الشدائد بربه وما يمليه على دينه، ولا يحيد عنه؛ فينجو بإذن الله تعالى.
 
حادثة الإفك حادثة عظيمة بوقعها، كبيرة بتداعياتها، غزيرة بدروسها وفوائدها لمن تأملها وبحث عن تفاصيلها في بطون الكتب، لم يتسع المقام لذكر أكثر من هذا.

 

مواد ذات صلة

المكتبة