- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:نوافذ عقدية
الدعاء روح العبادة ومظهر العبودية، وميدان الافتقار الدائم إلى الله جل جلاله. رغب الله تعالى ورسوله في الإكثار منه، وبشر الله تعالى بإجابة الدعاء فقال تعالى: (وقال ربكم ٱدۡعونيٓ أسۡتجبۡ لكمۡۚ) [غافر: 60]. وقال صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء رواه الترمذي. ولكن في الوقت الذي وسع فيه الشرع للعبد أن يسأل ربه ما شاء من خير الدنيا والآخرة؛ وضع له في المقابل ضوابط وآدابا لئلا يتحول الدعاء إلى اعتداء، أو سوء أدب مع الله تعالى.
أولا: التحذير من الاعتداء في الدعاء
روى أبو داود وغيره: عن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال له: أي بني سل الله الجنة، وتعوذ به من النار، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء. ومن صور الاعتداء في الدعاء: الدعاء بالمستحيل.
عرف ابن القيم الاعتداء في الدعاء بأنه: "كل سؤال يناقض حكمه الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به؛ فهو اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله". وعرفه سعود العقيلي بأنه: "تجاوز الحد الشرعي في الدعاء معنى، أو لفظا، أو أداء وهيئة".
ثانيا: أنواع المستحيل في الدعاء
يقسم العلماء المستحيل إلى أقسام ثلاث على النحو الآتي:
1. المستحيل العقلي: كاجتماع الضدين، أو طلب الخلود في الدنيا. ويرون الدعاء بذلك باطل ولا يجوز.
2. المستحيل العادي: كطلب عودة الشيخ شابا، أو الاستغناء عن الطعام والشراب، أو إنجاب ولد بلا زواج. ويرون الدعاء بذلك محرم؛ لأنه خروج عن سنن الله في خلقه.
3. المستحيل الشرعي: كطلب النبوة، أو المغفرة للكفار. ويقولون هذا أشد تحريما مما قبله؛ لأنه مصادم لنصوص الشرع الحنيف.
ثالثا: أقوال أهل العلم في الاعتداء بالدعاء
• ذكر البيهقي في شعب الإيمان أن من أركان الدعاء: "أن يكون المرغوب فيه مما يبلغ قدر السائل أن يسأله، وتفسيره أنه ليس لأحد أن يتشبه بإبراهيم عليه السلام فيدعو الله جل ثناؤه أن يريه كيف يحيي الموتى، ولا أن يتشبه بموسى عليه السلام فيقول: {رب أرني أنظر إليك} [الأعراف:143]. ولا أن يتشبه بعيسى عليه السلام فيقول: {ربنا أنزل علينا مائدة من السماء} [المائدة:114]. ولا لأحد أن يسأل الله تعالى إنزال ملك عليه فيسأله عن خبر من أخبار السماء، أو إحياء أبويه، لأن نقض العادات إنما يكون من الله تعالى لتأييد من يدعو إلى دينه، لا لشهوات العباد ومناهم، إلا أن يكون السائل نبيا فيجمع إجابته إياه أمنيته وتأييده بما يصدق دعوته".
• وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من المعونة على المحرمات، وتارة يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية: من الحاجة إلى الطعام والشراب، ويسأله بأن يطلعه على غيبه، أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولدا من غير زوجة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله".
• وقال الحصكفي في الدر المختار: "ويحرم سؤال العافية مدى الدهر، أو خير الدارين ودفع شرهما، أو المستحيلات العادية كنزول المائدة"، وعلق ابن عابدين موضحا صورها: كمن يسأل أن يعيش بلا تنفس، أو أن لا يعتريه مرض أبدا.
رابعا: من يجوز لهم الدعاء بالمستحيل العادية
ذكر أهل العلم من يجوز لهم الدعاء بالمستحيل عادة وهم:
1. الأنبياء: يجوز لهم سؤال الخوارق نصرة للدين، كما سأل عيسى عليه السلام نزول المائدة، وإبراهيم عليه السلام إحياء الموتى.
2. الأولياء: إذا جرى لهم خرق عادة بكرامة ظاهرة، فلا يكون سؤالهم من الاعتداء، ولا يكون ذلك إلا نصرة للدين.
3. حالة الاضطرار: إذا وقع الإنسان في شدة كالعطش المهلك في صحراء؛ جاز له أن يسأل الله ما يدفع عنه الضر، وإن كان في ذلك نقض للعادة، إذ الضرورات تبيح المحظورات. قال القرافي: "من المحرم الذي لا يكون كفرا: أن يسأل الداعي من الله تعالى المستحيلات العادية؛ إلا أن يكون نبيا فإن عادة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- خرق العادة، فيجوز لهم ذلك، كما سألوا نزول المائدة من السماء، وخروج الناقة من الصخرة الصماء. أو يكون وليا له مع الله تعالى عادة بذلك فهو جار على عادته، فلا يعد ذلك من الفريقين قلة أدب. أو لا يكون وليا ويسأل خرق العادة ويكون معنى سؤاله: أن يجعله وليا من أهل الولاية حتى يستحق خرق العادة فهذه الأقسام الثلاثة ليست حراما".
خامسا: الحكمة من منع الدعاء بالمستحيل
يرى العلماء أن من حكم منع العبد من الدعاء بالمستحيل: أنه ينافي الأدب مع الله تعالى، ويفتح للعبد باب الأماني الباطلة والشهوات الفاسدة. قال القرافي: "فإذا سأل الداعي من الله تعالى تغيير مملكته ونقض نظامه وسلوك غير عوائده في ملكه كان مسيئا الأدب عليه عز وجل، بل ذلك سوء أدب على أدنى الملوك بل الولاة، ولذلك عاب العلماء وغلطوا جماعة من العباد حيث توسطوا القفار من غير زاد، ولججوا في البحار في زمن الهول في غير الزمن المعتاد طالبين من الله تعالى خرق عوائده لهم في هذه الأحوال، فهم يعتقدون أنهم سائرون إلى الله تعالى وهم ذاهبون عنه، ظانين أن هذه الحالة هي حقيقة التوكل، وأن ما عداها ينافي الاعتماد على الله تعالى، وهذا غلط عظيم". بل الدعاء المشروع يعلم المسلم التوازن بين علو الهمة والواقعية الشرعية، وهو يوافق القدرة الإلهية والحكمة الشرعية، مع حسن الظن بالله تعالى واليقين بقدرته.
فالدعاء بالمستحيل العقلي أو الشرعي أو العادي من الاعتداء المنهي عنه شرعا، ولا يجوز إلا في حالات مخصوصة كدعاء الأنبياء، أو الولي، أو حالة الضرورة. وعلى المسلم أن يتحرى في دعائه الأدب والاتباع، وأن يسأل الله من الخير ما يناسب حاله ويصلح دينه ودنياه، فإن الله يحب من عباده التذلل والافتقار، لا التجرؤ والاعتداء.