أهْوَن وأدْنَى أهْل النار عذابا

0 0

النار مثوى الكافرين والمنافقين، والأشرار والفجار، قال الله تعالى عنها: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة}(التحريم:6). قال ابن عاشور: "وتنكير {نارا} للتعظيم، وأجري عليها وصف بجملة وقودها الناس والحجارة زيادة في التحذير لئلا يكونوا من وقود النار، وتذكيرا بحال المشركين الذي في قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم}(الأنبياء:98)، وتفظيعا للنار إذ يكون الحجر عوضا لها عن الحطب"..
والنار دركات، وأهلها متفاوتون في العذاب فيها على قدر كفرهم وأعمالهم، قال الله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار}(النساء:145). قال السمعاني: "{إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} قال أبو عبيدة والأخفش: النار دركات، والجنة درجات، قال أهل العلم: يجوز أن يكون فرعون وهامان أشد عذابا من المنافقين، وإن كان المنافقون في الدرك الأسفل".. وفصل القرطبي فقال: "كفر من كفر فقط ليس ككفر من طغى وكفر وتمرد وعصى، ولا شك أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر، مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين".. وأضاف ابن رجب في "التخويف من النار" بقوله: "اعلم أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي دخلوا بها النار كما قال تعالى: {ولكل درجات مما عملوا}(الأحقاف:19)، وقال تعالى: {جزاء وفاقا}(النبأ:26)، قال ابن عباس: وافق أعمالهم، فليس عقاب من تغلظ كفره، وأفسد في الأرض، ودعا إلى الكفر، كمن ليس كذلك"..

عصاة المسلمين:
عصاة المسلمين أقل أهل النار عذابا ـ إذا لم يغفر الله عز وجل لهم بفضله ـ، فإنهم يدخلون النار يعذبون فيها على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها ويدخلون الجنة، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء:48). قال السعدي: "يخبر تعالى: أنه لا يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين، ويغفر ما دون الشرك من الذنوب صغائرها وكبائرها، وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك، إذا اقتضت حكمته مغفرته".
والأحاديث النبوية الصحيحة المتواترة الدالة على إخراج عصاة الموحدين من النار، وعدم خلودهم فيها كثيرة، ومن ذلك الحديث الذي رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا.. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب في ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا من ذلك فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) رواه البخاري. قال ابن رجب: "وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار، بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر، كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم العذاب، بحسنات أخر له، أو بما شاء الله من الأسباب"..
ومن عقيدة أهل السنة ـ سلفا وخلفا ـ أن من المسلمين من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومنهم من يدخل الجنة بعد الحساب، ومنهم من يدخل الجنة بعد العذاب في النار ما شاء الله له أن يعذب، ثم يخرج منها.. قال الشيخ ابن عثيمين: "عصاة المسلمين ثلاثة أقسام: قسم يغفر الله له ولا يدخل النار أصلا، وقسم آخر يدخل النار ويعذب بقدر ذنوبه ثم يخرج، وقسم ثالث يدخل النار ويعذب، ولكن يكون له الشفاعة، فيخرج من النار قبل أن يستكمل ما يستحقه من العذاب"..
وهذا القدر من العذاب لعصاة المسلمين لا يعلم شدته ولا مدته إلا الله، ولكن الذي اتفق عليه أهل السنة أنهم يعذبون في النار ما شاء الله أن يعذبوا، كل بحسب معاصيه ومخازيه، ثم يدخلهم الله الجنة بفضله وبرحمته.. قال شارح الطحاوية: "وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: "لا إله إلا الله"، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة المسلمين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم"..

أهون وأدنى أهل النار عذابا:
1 ـ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا) رواه مسلم. وفي رواية أحمد في "المسند": (إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل). قال الهروي في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "ولعل هذا الحديث بالنسبة إلى أدنى العصاة من المؤمنين".
2 ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أدنى أهل النار عذابا ينتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حرارة نعليه) رواه مسلم..
وفي هذين الحديثين يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أقل وأهون أهل النار عذابا هو رجل: (يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل)، وفي الرواية الثانية: (ينتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حرارة نعليه)، وغليان الدماغ من جمرتين، أو من حرارة نعلين من نار يوضح مدى شدة هذا العذاب..
قال النووي: "والغليان معروف، وهو شدة اضطراب الماء ونحوه على النار لشدة اتقادها.. وأما المرجل فبكسر الميم وفتح الجيم وهو قدر معروف سواء كان من حديد، أو نحاس، أو حجارة، أو خزف، هذا هو الأصح.. وفي هذا الحديث وما أشبهه تصريح بتفاوت عذاب أهل النار كما أن نعيم أهل الجنة متفاوت".
وقال ابن الجوزي في "كشف المشكل من حديث الصحيحين": "أخمص القدم: باطنها.. وقوله: (لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه) وذلك أنه يرى هذه الشدة العظيمة فيظن أنها النهاية، وظنه أنه قد خص بأعظم العذاب عذاب فوق عذابه".
وأضاف الصنعاني في "التنوير شرح الجامع الصغير": "(أهون أهل النار عذابا يوم القيامة) أي أدناهم وأيسرهم وأخفهم، (رجل يوضع في أخمص) باطن الأقدام ما لم يصب الأرض.. (قدميه جمرتان) تحت كل أخمص جمرة، (يغلي منهما دماغه) وهو قمة رأسه".. فإذا كان الدماغ يغلي وهو أبعد ما يكون عن النعلين، فما بالنا بما تحته؟!
وقال الشيخ ابن عثيمين في "شرح رياض الصالحين": "بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أهون أهل النار عذابا، من يوضع في قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وهو يرى أنه أشد الناس عذابا، وأنه لأهونهم لأنه لو رأى غيره لهان عليه الأمر، ولكنه يرى أنه أشد الناس عذابا والعياذ بالله، فحينئذ يتضجر ويزداد بلاء ومرضا نفسيا والعياذ بالله، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث تحذيرا لأمته من عذاب النار.. فالأمر خطير، فيجب علينا جمعيا أن نحذر من أهوال هذا اليوم، وأن نخاف الله سبحانه وتعالى، فنقوم بما أوجب علينا، وندع ما حرم علينا"..

فائدة:

1 ـ أبو طالب أهون أهل النار عذابا من الكفار: أهون أهل النار عذابا من الكفار المقيمين فيها أبدا أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم.. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه) رواه مسلم. قال القاري في "المرقاة": "(أهون أهل النار عذابا) أي من الكفار (أبو طالب)، (وهو منتعل) أي: متلبس، (بنعلين) أي: من نار، (يغلي منهما) أي: من نعلهما أو من جهة نعله، (دماغه)، وإنما خفف عذابه لكونه حاميا له صلى الله عليه وسلم عن تشديد عداوة الكفار، فلما خفف خفف جزاء وفاقا".. وأضاف ابن هبيرة في "الإفصاح عن معاني الصحاح": "هذا الحديث يدل على أن أبا طالب قد خفف الله عنه من أجل مدافعته عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن شركه بالله أبقى عليه باقي العذاب".. وقال القرطبي في "التذكرة": "نعلم على القطع والثبات أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك فيهم وأفسد في الأرض وكفر، مساويا لعذاب من كفر فقط وأحسن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبه (دفاعه) عنه وإحسانه إليه؟!"..
2 ـ يدخل النار من المسلمين من خفت موازينه وغلبت سيئاته حسناته، ولم يعف الله عنه ويتجاوز عن سيئاته، ولكن لا يخلد المسلم في النار مهما كثرت ذنوبه ولو كانت من الكبائر.. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: "وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه: إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النسلء:48)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته، وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته"..
3 ـ لا ينبغي الاستهانة بالنار من المسلم بدعوى أنه لن يخلد فيها، بل يجب الخوف من عذابها والاجتهاد في البعد عن أسبابها، فاستهانة العبد بالنار وعدم المبالاة بها أمر خطير، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في وصفه لأقل عذاب أهل النار يوضح شدة هذا العذاب، مما يستدعي الخوف من عذاب النار يوم القيامة، وليس الاستهانة به للخروج منه بعد فترة..

وختاما، فإن الإيمان بالجنة والنار، وما أعده الله تعالى للمؤمنين من نعيم في الجنة لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر، ومن نار وقودها الناس والحجارة، يعاني أهلها الحسرة والشقاء، ويذوقون فيها العذاب الشديد الذي لا يتصوره بشر، يدخل ضمن الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركن من أركان الإيمان.. فالجنة درجات متفاوتة في النعيم بتفاوت أهلها في الإيمان والتقوى والعمل الصالح، والنار دركات متفاوتة في العذاب بتفاوت أهلها في الكفر والمعاصي، وأهون وأقل أهل النار عذابا من المسلمين: من له نعلان من نار، يغلي منهما دماغه من شدة الحرارة.. والعاقل من يسعى ويسارع إلى الجنة بطاعة الله وتقواه واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحذر ويفر من النار بالبعد عن الذنوب والمعاصي، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة