- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
المساواة بين الناس حق إنساني سام وعظيم، ومبدأ ثابت وراسخ في ديننا وحضارتنا الإسلامية، تقوم عليه كرامة الإنسان، وتصان به حقوقه، لا عبرة فيه لجنس ولا لون، ولا وطن ولا قومية، وقد قرر القرآن الكريم أن التفاضل بين الناس لا يكون إلا بالتقوى والعمل الصالح، قال الله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات:13). قال ابن كثير: "قوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
وأضاف السعدي: "يخبر تعالى أنه خلق بني آدم من أصل واحد، وجنس واحد، وكلهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعهم إلى آدم وحواء، ولكن الله تعالى بث منهما رجالا كثيرا ونساء، وفرقهم وجعلهم شعوبا وقبائل.. ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقوما، ولا أشرفهم نسبا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرا وباطنا، ممن يقوم بذلك، ظاهرا لا باطنا، فيجازي كلا بما يستحق"..
وفي خطبة حجة الوداع أكد النبي صلى الله عليه وسلم على جملة من الحقوق الإنسانية ومنها المساواة، وذكر فيها أن التقوى هي أساس التفاضل بين الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) رواه البيهقي..
والسيرة النبوية بأحداثها ومواقفها تظل المثال الأسمى في الدعوة ـ القولية والعملية ـ إلى المساواة بين جميع البشر، وقد تجلت هذه القيمة بشكل بارز في غزوة بدر، وغزوة الأحزاب، وبناء المسجد النبوي، وكذلك في حجة الوداع وخطبتها الجامعة في حقوق الإنسان..
1 ـ غزوة بدر:
غزوة بدر ملحمة من ملاحم التاريخ الإسلامي، ومعركة فرق الله بها بين الحق والباطل، وقد وقعت أحداثها في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة النبوية، وعرفت في القرآن الكريم ببدر وبيوم الفرقان، قال الله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة}(آل عمران:123)، وقال: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان}(الأنفال:41). وكل انتصار للمسلمين سيظل مدينا لبدر، التي كانت بداية الفتوحات والانتصارات الإسلامية..
والمسير إلى بدر ـ وهو المكان الذي وقعت فيه المعركة ـ لم يكن سفرا يسيرا، فالمسافة بين المدينة المنورة وبدر تزيد على مائة وخمسين كيلو مترا، في ظل ظروف قاسية ومناخ شديد، ولم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته غير سبعين بعيرا يتبادلون الركوب عليها وذلك لقلتها بالنسبة لعدد الجيش الذي بلغ ثلاثمائة وخمسة عشر رجلا..
ويصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الموقف فيقول: (كنا يوم بدر، كل ثلاثة على بعير (يتبادلون الركوب على بعير واحد) رواه أحمد. وقد حاول أبو لبابة وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما إيثار النبي صلى الله عليه وسلم على نفسيهما ـ إذ كانا مرافقيه على البعير ـ، ويسيرا هما ولا يسير النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهما: (ما أنتما بأقوى مني على المشي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما) رواه أحمد. قال الطيبي: "فيه إظهار غاية التواضع منه صلوات الله وسلامه عليه، والمواساة مع الرفقاء، والافتقار إلى الله تعالى". وقال الشيرازي الحنفي المشهور بالمظهري في كتاب "المفاتيح في شرح المصابيح": " قوله: (ما أنتما بأقوى مني) أي: بأقوى مني على السير راجلا، بل أنا أقوى. قوله: (وما أنا بأغنى عن الأجر منكما) يعني: أنتما تريدان أن تمشيا راجلين لطلب الأجر، وأنا أيضا أطلب الأجر بأن أنزل وأركبكما على الدابة، وإنما قال هذا لتعليم الأمة طلب الأجر، وان كان طالب الأجر عالما أو زاهدا، فإن أحدا لا يستغني عن الأجر، لأن الأجر مزيد درجات النعيم"..
2 ـ غزوة الأحزاب:
وفي غزوة الأحزاب، تجلت المساواة بأسمى صورها، فحمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الأحجار، وشاركهم في حفر الخندق. عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله ينقل التراب يوم الخندق، حتى اغبر بطنه) رواه البخاري. وكان أثناء الحفر يردد أبيات عبد الله بن أبي رواحة رضي الله عنه:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وفي حفر الخندق ظهرت مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم في آلامهم وآمالهم، وسرائهم وضرائهم، فعانى مثلهم أثناء الحفر من ألم التعب والجوع، بل وصل به الأمر إلى أن ربط حجرا على بطنه الشريف من شدة الجوع، وحين وجد ما يسد رمقه بعد جوع استمر ثلاثة أيام، لم يستأثر بذلك دونهم، بل دعاهم إليه وشاركهم فيه.. وكان لمشاركته الفعلية الحفر مع أصحابه ومساواته لنفسه معهم ـ مع علو منزلته وقدره ـ الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت عليهم، وقد عبر الصحابة رضوان الله عليهم عن هذه المعاني بإنشادهم:
نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا
3 ـ بناء المسجد النبوي:
لم تكن المساواة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم ـ بقوله وفعله ـ رهن الغزوات فقط، بل كانت أسلوب حياة في كل صغيرة وكبيرة، وقد ظهرت عمليا في مواقف كثيرة من حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم.. ومن ذلك مشاركته لأصحابه ـ بعد هجرته إلى المدينة المنورة ـ في بناء المسجد النبوي، فكان يحمل الطوب لبناء المسجد مثل أصحابه، وكان عمره في ذلك الوقت ثلاثا وخمسين سنة، ولم يمنعه سنه ولا مكانته ومنزلته العالية ـ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد ولد آدم ـ من أن يتعاون مع أصحابه في بناء المسجد، وظل يعمل معهم حتى اكتمل البناء، وعندما رأى الصحابة رضوان الله عليهم رسولهم صلى الله عليه وسلم يعطيهم القدوة العملية في العمل وبناء المسجد، نشطوا في أداء المهمة بهمة عالية وعزيمة لا تلين، وقالوا:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
4 ـ حجة الوداع:
في حجة الوداع عندما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليشرب من السقاية، أراد الصحابة أن يميزوه بشراب خاص فرفض حتى لا يكن متميزا عن الناس.. عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعيره، وأتى السقاية (المكان الذي يسقي بها ماء زمزم)، فقال: اسقوني، فقالوا: إن هذا يخوضه الناس، ولكنا نأتيك به من البيت، فقال: لا حاجة لي فيه، اسقوني مما يشرب منه الناس) رواه البخاري.
وقد كان العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه هو المسؤول عن السقاية، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسقوني) قالوا له: (إن هذا يخوضه الناس فيشربون منه، ويدخلون أيديهم فيها، ولكنا نأتيك به من البيت) أي: من بيت العباس، فطلب العباس من ولده الفضل أن يذهب إلى أمه أم الفضل فيأتي بشراب من عندها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حاجة لي فيه، اسقوني مما يشرب منه الناس) فشرب من موضع شراب الناس، ومن نفس الماء الذي يشربون منه، وهذا من تواضعه وجميل خلقه صلى الله عليه وسلم..
قال ابن حجر في "فتح الباري": "وفيه: الترغيب في سقي الماء خصوصا ماء زمزم، وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه أنه لا يكره طلب السقي من الغير ولا رد ما يعرض على المرء من الإكرام إذا عارضته مصلحة أولى منه، وذلك لأن رده صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه العباس مما يؤتى به من بيته لمصلحة التواضع التي ظهرت من شربه مما يشرب منه الناس. وفيه: الترغيب في سقي الماء خصوصا ماء زمزم، وفيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم"..
وختاما، فإن قضية حقوق الإنسان تمثل في عالمنا المعاصر أولوية كبرى، تتفاوت حولها الرؤى وتتنازعها الأهواء، والناظر إلى السيرة النبوية بعين الإنصاف، يرى فيها أنموذجا فريدا لحفظ كرامة الإنسان وصيانة حقوقه، وعلى رأسها حق العدل والمساواة، تلك المساواة التي لا تفرق بين الناس في أصل أو لون أو نسب، بل تجعل ميزان التفاضل هو التقوى والعمل الصالح، لا مجرد شعار يرفع، ولا كلمات تقال، وقد تجسدت المساواة في حياة وسيرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وظهرت عمليا في بنائه المسجد مع أصحابه، وفي غزواته، وفي حفره معهم الخندق، وفي حجة الوداع وخطبتها الجامعة وما فيها من حقوق الإنسان.. فحري بنا ـ أفرادا ومجتمعات ـ أن نعود إلى السيرة النبوية، نستضيء بأنوارها، وننهل من معينها، ونستخرج منها الدروس والعبر، ونقيم بها مجتمعات يسودها الحب والأخوة، والعدل والمساواة، قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب:21). قال ابن كثير: "هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله"..

المقالات

