الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أوصيكم ونفسي الخاطئة أولا بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال جل وعلا: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله). (يٓأيها ٱلذين ءامنوا ٱتقوا ٱلله وقولوا قوۡلٗا سديدٗا (70) يصۡلحۡ لكمۡ أعۡملكمۡ ويغۡفرۡ لكمۡ ذنوبكمۡۗ ومن يطع ٱلله ورسولهۥ فقدۡ فاز فوۡزا عظيما(71)).
أما بعد:
أيها الأحبة في الله: مسألة القبور شأنها عظيم، وأخطر ما فيها ما وقع فيه بعض المسلمين من الغلو في الصالحين من نزلاء القبور، حيث يعتقدون أنهم يدفعون البلاء، ويجلبون النعم، ويشفون السقام، ويكشفون الكربات، ويقضون الحاجات. وهذا والله من أعظم الضلال في أصل الدين، وهو باب من أبواب الشرك الأكبر.
وقد بين الإمام الشوكاني رحمه الله أن أصل الشرك كان من تعظيم القبور حيث قال رحمه الله: "كان أول ذلك -يعني: بناء القبور وتعظيمها، وعبادة الأصنام والعناية بها- في قوم نوح حيث قالوا كما قال الله جل وعلا: (قال نوحٞ رب إنهمۡ عصوۡني وٱتبعوا من لمۡ يزدۡه مالهۥ وولدهۥٓ إلا خسارٗا (21) ومكروا مكۡرٗا كبارٗا (22) وقالوا لا تذرن ءالهتكمۡ ولا تذرن ودٗا ولا سواعٗا ولا يغوث ويعوق ونسۡرٗا (23))[نوح: 21-23]. كانوا قوما صالحين، قوم نوح جعلوا من هؤلاء من ود ويغوث وسواع ويعوق ونسر، جعلوا من هؤلاء الصالحين جعلوهم قادة لهم يقتدون بهم وجعلوهم قادة يتبعونهم، وكان الذي ظهر فيهم هذا الأمر في بداية أمرهم كانوا من صالحي بني آدم، ولكن الصالحين الذين عظموا ماتوا، فقال أصحابهم الذين يقتدون بهم: لو صورناهم، بدأ الشرك بالتصوير، لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا مات ذلك الجيل الأول الذي صور الصالحين لا لعبادتهم ولكن للتشوق إلى العبادة حال رأيت صورهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر، فعبدوهم ثم عبدتهم العرب بعد ذلك". وقد حكي معنى هذا في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد جاء التحذير في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في سكرات الموت: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا. بل إن آخر وصية قالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يودع الدنيا كانت في شأن التوحيد وخطر الغلو في القبور، فأي وصية أعظم، وأي نصيحة أجل، والأمة يقودها نبيها وإمامها في لحظات الوداع وسكرات الموت، وساعة الفراق؟! لم يوصهم صلى الله عليه وسلم بمال ولا بدنيا، ولم ينبههم إلى اقتصاد أو سياسة، بل أوصاهم بأهم القضايا وأعظمها: قضية التوحيد والعقيدة، وتحقيق العبودية الخالصة لله وحده، والتوجه الصادق إليه سبحانه لا إلى سواه.
وفي صحيح مسلم عن جندب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.
أيها المسلمون: لقد كان هذا التحذير المتواتر من النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يتخذ قبره مسجدا، ولا يكون موضعا للطواف أو التمسح أو الدعاء عنده، فالتوحيد أعظم وصية، وهو لب الرسالة، ومن ضيعه فقد هدم أصل الدين.
أيها الأحبة في الله: إن من صور الغلو في القبور ما تفعله بعض الفرق التي نشأت في بعض البلاد كالهند، حيث جعلوا من الأضرحة والأموات مواسم وأعراسا، فسموا زيارتها بالأعراس، ومن تخلف عنها رموه بالجهل والضلال، بل كفروه وسموه وهابيا، وعدوه من خصوم الإسلام.
وقد بلغ بهم الانحراف أنهم يحضون الناس على إحضار الطعام والفاكهة إلى المقابر، ويزعمون أن في ذلك بركة وخيرا! حتى تحولت قبورهم – بزعمهم – إلى موائد ممتدة لا تنقطع، وأسواق للبدع لا تهدأ، يجتمع الناس عندها ليلا ونهارا. ثم يزينون هذه المزارات بالزخارف والأنوار، ويستقبلون الداخلين بالقرابين والنذور، ويطوف بهم المطوفون، ويقص عليهم سدنة القبور من الأكاذيب والكرامات المزعومة ما يملأ قلوب الجهال تعظيما لها، فيخرج أحدهم – والعياذ بالله – وقد تعلق قلبه بغير الله، وهو لا يدري أنه قد وقع في الشرك الأكبر.
فإنا لله وإنا إليه راجعون! ما أعظم الخطر حين يتحول القبر إلى معبد، والضريح إلى وثن، ويصرف فيه من أنواع العبادة ما لا يجوز إلا لله رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
عباد الله: إن مما يزيد الخطر ويضاعف البلاء ما يفعله القبوريون في بلدان المسلمين؛ من رفع القبور، وبناء القباب، وتعليق الستور، وإيقاد السرج، ونقش الرخام، حتى صارت المقابر كالمزارات والأسواق، يجتمع الناس حولها، ويذبحون عندها القرابين، وينذرون لها النذور، ويصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور، كما في حديث جابر رضي الله عنه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر أو يقعد عليه أو يبنى عليه رواه مسلم. وأمر عليا رضي الله عنه فقال: لا تدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته.
أيها الأحبة: إن رفع القبور وتزيينها هو الباب الأعظم لدخول الشرك، وكلما عظم الناس القبر في الظاهر دخل الشيطان قلوبهم فزين لهم أن صاحبه ينفع ويضر، حتى يطلبوا منه ما لا يقدر عليه إلا الله، فيقعون في الشرك من حيث لا يشعرون، قال الله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).
ولذلك كان من الواجب على الأمة حماية مقابرها من مظاهر الشرك، والحرص على السنة في الدفن بلا مبالغة ولا زينة ولا بناء. قال صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم رواه أبو داود.
فيا عباد الله: التوحيد هو رأس مالنا، وهو الذي من أجله خلقنا، ومن أجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، فلا يليق بنا أن نفرط فيه، أو نتهاون في حمايته من كل بدعة وغلو.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال جل من قائل: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم طهر بلاد المسلمين من الشرك والبدع، وأحي فيها سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. اللهم اجعل قبور المسلمين روضة من رياض الجنة، ولا تجعلها محل شرك ولا وثنية.