نعمة الإيمان والدين

0 5


الخطبة الأولى 



الحمد لله رب العالمين، هدى عباده إلى الإيمان وشرح صدورهم للإسلام، وكشف عنهم ظلمات الكفر والضلال، نحمده سبحانه على نعمائه التي لا تعد ولا تحصى، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير من قام بشكر ربه وعبادته. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه القويم إلى يوم الدين. أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل حق التقوى، فهي سبيل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة. نسأل الله الثبات على الإيمان حتى الممات، ونعوذ بالله أن نزل أو نزل أو نضل أو نضل. {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} [آل عمران:8]. 



أما بعد. 

عباد الله: إن نعمة الإيمان هي أعظم نعمة على الإطلاق ينعم الله بها على العبد في هذه الحياة، وبغير الإيمان يخسر المرء كل شيء؛ يخسر دنياه وآخرته، وقد يغتر بعض الناس بمتاع الدنيا إن حصلوه مع فقدان الإيمان، ولكن ماذا ينفع المال والجاه بلا إيمان؟ لا شيء والله. قد يخسر المرء أحيانا أمورا من أمور الدنيا فيعوضها، لكن خسارة الآخرة لا تعادلها خسارة؛ لأنها خسارة أبدية سرمدية؛ لذلك فإن الموفق حقا هو من رزقه الله نعمة الإيمان والهداية، والمحروم التعيس هو من حرم هذه النعمة وضل عن سواء السبيل. فبالهداية والإيمان يشرح الله صدور عباده للحق ويملؤها نورا ومعرفة، يقول تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} [التغابن:11].إن قيمة النعمة تعرف بآثارها ونتائجها، فأثر نعمة الإيمان لا ينحصر في مرحلة واحدة، بل يصاحب العبد في مراحل حياته كلها إلى ما بعد مماته، فالإيمان مع المؤمن في دنياه، وعند موته، وفي قبره، وفي حشره ونشوره، وعلى الصراط، وإلى أن يفوز بجنة ربه. وحرمان الإيمان -عياذا بالله- يرافق الكافر والمنافق في جميع مراحله؛ فله لعنات وضيق في الدنيا، وعند الموت سوء خاتمة، وفي القبر عذاب وظلمة، وفي يوم القيامة خزي وذلة، وفي الآخرة عذاب النار المقيم. فبالإيمان تربح كل شيء ولا تخسر شيئا، وبغير الإيمان تخسر كل شيء ولا تربح شيئا. فما الذي يكسبه من أعرض عن ربه وكفر به؟ لا يكسب إلا غضب الله وسخطه ولعنته والبعد عن رحمته. وإن الله تعالى ليمهل الكافرين ويمد لهم في الدنيا، ولكنهم يعيشون في شقاء نفسي وضنك روحي مهما بلغ رخاؤهم المادي.

عباد الله: انظروا إلى أحوال من حرموا نور الإيمان وهداية الدين وإن تمتعوا بزخرف الدنيا! إن طريق الكفر والإلحاد لا يحقق السعادة الحقيقية وإن توفرت كل المقومات المادية. والواقع شاهد على ذلك: ها هي دول بلغت قمة التقدم المادي والتقني، عندهم من متاع الدنيا ما يفوق الوصف، ولكن هل جلب لهم ذلك سعادة القلب وراحة النفس؟ كلا والله. بل نرى عندهم أعلى نسب الانتحار والأمراض النفسية والتفكك الأسري والاجتماعي. إنهم لم يجدوا الحياة الحقيقية في ظل الكفر والإعراض عن رب العالمين؛ فمن أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا ولو أترف جسده، ومن عاش بلا إيمان حرم طمأنينة القلب ولو ملك الدنيا بأسرها. يقول تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} [طه:124]. ومن أعرض من المسلمين مثل إعراضهم أصابه ما أصابهم، فسنة الله واحدة لا تحابي أحدا، ولا تستثني بشرا وإن عاش بين المسلمين، فالأرض لا تعصم أحدا، وليس بين الله وبين عباده نسب ولا قرابة، ولكنه الإيمان والعمل الصالح.

أيها المؤمنون: إذا علمنا أن الإيمان أصل السعادة في الحياة الدنيا والآخرة، وجب علينا أن نشكر الله تعالى أن جعلنا من أهل الإيمان. فالله جل جلاله امتن بهذه النعمة على رسوله وعلى الأمة، فقال سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [المائدة:3]. فتمام نعمة الله علينا كانت بإكمال دين الإسلام وإتمام الإيمان. وهذه النعمة هي جديرة بأن نتحدث عنها ونشكر الله عليها أعظم الشكر، كما قال تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى:11]. وإن من شكر هذه النعمة أن نعرف قدرها حق المعرفة؛ فكثير من الناس اليوم انقلبت عندهم الموازين، فظنوا أن النعم هي النعم المادية فحسب: ملء البطون، والتمتع باللذائذ والشهوات. نعم هذه نعم لكنها مشتركة بين الإنسان والبهائم، يعطيها الله لمن يشاء من بر وفاجر، مؤمن وكافر. فكم من كافر مترف أعطاه الله من أموال الدنيا وملذاتها استدراجا له، وما علم أن ذلك العطاء وبال عليه! قال الله تعالى: {أيحسبون أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين} [آل عمران:178]. أما النعمة الحقيقية الكبرى فهي نعمة الإيمان والهداية؛ هذه النعمة الخاصة التي يمن الله بها على من أحب من عباده، فإذا رزقك الله يا أخي نعمة الإيمان، فقد -والله- فتح لك باب الفوز العظيم، فلا تفرط فيه.

عباد الله: إذا تمسك المؤمن بنعمة الإيمان حق التمسك، وسعى في زيادته وتنميته، كان الإيمان معه حرزا وحصنا في كل مراحل حياته. ولنتأمل في أحوال المؤمن الصادق عند نزول الشدائد وعند الموت وفيما بعده: المؤمن بالله يتنزل عليه الثبات والطمأنينة عند احتضاره، يبشره الله بالجنة في تلك اللحظة العصيبة، قال تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة...} [فصلت:30]. يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فينطق المؤمن عند موته بشهادة التوحيد ختاما لحياته الحافلة بالإيمان. أما الذي حرم نور الإيمان فإنه يضل عند موته، فلا يقدر على النطق بكلمة التوحيد لما كان فيه من رين المعاصي والكفر على قلبه. وقد وردت حوادث واقعية مرعبة لأقوام حضرهم الموت فلم يستطيعوا النطق بالشهادة، بل كان آخر كلامهم ترديد ما عاشوا عليه من باطل! فمنهم من كان تاجرا بالربا فكان يهذي عند الموت بحساب الأموال حتى خرجت روحه، وآخر كان مفتونا بالغناء فمات وهو يردد كلمات الأغنية عوضا عن ذكر الله، وآخر أله بالخمر والتدخين فسألوه أن يقول لا إله إلا الله فقال: "أعطوني سيجارة!" ثم مات والعياذ بالله، فمن عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه؛ فاعتبروا يا أولي الأبصار. نسأل الله حسن الخاتمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها المسلمون: في القبر يفترق المؤمن والكافر والمنافق افتراقا عظيما المؤمن يوفقه الله للجواب الصحيح عن أسئلة الملكين؛ يثبته الله بالقول الثابت، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويوسع له في قبره مد بصره. وأما الكافر والمنافق في تلك الحفرة الموحشة، فلا يقدر على جواب، وإذا به يجيب عن سؤال الملكين: "هاه هاه لا أدري...". وحينها يقال له: لا دريت ولا تليت! ويضرب بمطرقة من حديد صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين، ويفرش له قبره من النار، ويفتح له باب إلى الجحيم فيأتيه من حميمها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه والعياذ بالله. أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ثم يأتي يوم القيامة العظيم؛ يوم الفصل والحساب، هناك أيضا يظهر أثر الإيمان والكفر جليا، فالمؤمنون يومئذ وجوههم مشرقة ضاحكة مستبشرة، في ظل عرش الرحمن آمنون. وأما أهل الكفر والعصيان فحالهم الخزي والذلة: يقومون من قبورهم في ذعر، ويحشرون إلى المحشر عطشى مهطعين، يحرمهم الله شربة الماء يوم الظمأ الأكبر، ويحال بينهم وبين حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بدلوا وغيروا ولم يتبعوا سنته في الدنيا. يمضي المؤمن نحو ميزان العدالة فتثقل موازينه برحمة الله، بينما الكافر والفاجر لا وزن لعمله: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا} [الكهف:105]. تطاير الصحف، فيأخذ المؤمن كتابه بيمينه فرحا مسرورا، ويأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره نادما مذعورا يقول: {يا ليتني لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه * يا ليتها كانت القاضية*} [الحاقة:25-27]. ثم تكون النهاية والعياذ بالله: خلود في النار، تلك النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

عباد الله: تلك هي عاقبة من حرم نعمة الإيمان، فهل يستوي هو ومن كان مؤمنا بالله مستقيما على أمره؟ حاشا وكلا. يقول سبحانه: {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون * أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى… وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} [السجدة:18-20].

ألا صلوا وسلموا على من بعثه الله رحمة للعالمين، فقد أمركم الله بذلك في محكم كتابه فقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة