الذين بدلوا نعمة الله كفرًا

0 1

الخطبة الأولى 

الحمد لله رب العالمين؛ له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اتقوا الله حق التقوى، واشكروا نعمه وآلائه، ولا تبدلوا نعمة الله كفرا. واعلموا أن الشكر حفظ للنعم، والكفران سبب لزوالها؛ قال عز وجل: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7].

أما بعد: 

عباد الله: موضوع حديثنا اليوم عن صنف من الناس بدلوا نعمة الله كفرا، وعن عاقبة هذا الصنيع الوخيم. لقد ورد ذكر هؤلاء في القرآن في قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار} [إبراهيم: 28]. فمن هم الذين بدلوا نعمة الله كفرا؟ فسر ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية بأنهم كفار قريش الذين أنعم الله عليهم بنعمة الرسالة الخاتمة من بين سائر العرب، فإذا بهم يكفرون بها ويعرضون عن أعظم نعمة ساقها الله إليهم. وقال جماعة من أهل العلم: بل الآية عامة في كل من أوتي نعمة الدين أو الدنيا فكفر بها وأعرض عن شكرها. فكل من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله بعدما وصله الحق والهدى، فهو ممن بدل نعمة الله كفرا، سواء كان فردا أو جماعة أو أمة بأكملها. تأملوا أيها المؤمنون روعة التعبير القرآني في الآية: قال تعالى {نعمة الله} بالإفراد، ولم يقل "نعم الله" بالجمع، فذلك –والله أعلم– لأن نعمة واحدة من نعم الله تستوجب شكرا عظيما، ولا يقدر العباد على أداء حقها كما ينبغي، فإذا كان الإنسان عاجزا عن الوفاء بشكر نعمة واحدة، فكيف إذا تعددت النعم عليه بلا حساب؟! لذا جاء الوعيد على كفران نعمة واحدة بصيغة الجمع: {وأحلوا قومهم دار البوار}؛ أي الهلاك والبوار في الدنيا والآخرة. وقد ضرب الله تعالى في القرآن مثلا لقوم أنعم عليهم ثم كفروا بنعمه، فقال سبحانه: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل: 112]. فبين تعالى أن الكفر بأنعم الله يولد العقوبات وينزع بركة ما أوتي الإنسان من نعم. فالله المنعم يتودد إلى عباده بالنعم وهو غني عنهم، والعباد يقابلون إحسانه بالكفران وهم أفقر ما يكونون إليه.

أيها المسلمون: إن أعظم نعمة أنعمها الله على البشرية هي نعمة الإسلام والإيمان، فمن قبلها وشكرها زاده الله عزا وثباتا وسعادة، ومن ردها وكفر بها سلبه الله خيري الدنيا والآخرة. وقد ذكر الله لنا في القرآن قصص أقوام تلقوا نعمة الله بالجحود فبدل الله حالهم وأهلكهم. فمن ذلك قصة قوم سبأ في اليمن: أنعم الله عليهم نعمة كبيرة في الدنيا؛ أرضا خصبة وجنات وارفة الظلال وعيشا هنيئا رغيدا، وكانت وصية الله لهم: {كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور} [سبأ: 15]. فماذا كان ردهم؟ كفروا النعمة ولم يشكروا المنعم، بل أعرضوا عن عبادته، فأرسل الله عليهم سيل العرم الذي دمر سدهم وأتلف زرعهم، وتحولت جناتهم إلى صحراء قاحلة وشوك وثمار مرة. كذلك الأمة التي أعرضت عن شرع الله ولم تحكمه، حلت بها الفوضى وزالت عنها نعم الأمن والاستقرار. ولنا في واقع بعض المجتمعات عبرة: كانت تنعم بالأمن والرغد، فلما كفرت بأنعم الله وارتكست في مستنقع الفساد والانحلال إذا بحالها ينقلب رأسا على عقب. حلت الفتن والقلاقل محل الأمن، والضيق والخوف محل الراحة والطمأنينة. ولله في ذلك سنن لا تتبدل ولا تتحول؛ قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمؤ [الرعد: 11]. فمن غير طاعة الله إلى معصية، غير الله حاله من نعمة إلى نقمة. وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كفران النعم وجحود الجميل، فذكر أن أكثر أهل النار النساء لكفرهن (أي جحودهن) العشير والإحسان، فالعياذ بالله من كفر النعمة صغيرها وكبيرها. وماذا عن نعمة الإيمان والدين نفسها؟ إن المرء قد يولد مسلما وينشأ في بيئة إسلامية، فتكون نعمة الإسلام عليه نعمة موروثة. وهذه النعمة -عباد الله- تستوجب منا مزيد عناية وشكر، لأنها أعظم النعم إطلاقا، وكما قيل: لا بد للإنسان من مولدين اثنين؛ مولد من بطن أمه، ومولد يهديه فيه الله للإيمان. فمن كان أبواه مسلمان فقد ولد على الفطرة، وهذه نعمة تحتاج شكرا دائما بالتزام طاعة الله ورسوله. ومن كان أبواه على غير الإسلام فشرح الله صدره للإيمان، فقد ولدته الهداية ولادة جديدة. وكلاهما مخاطب بشكر نعمة الله عليه أن اصطفاه ومن عليه بالإيمان. فالحذر الحذر من التفريط في هذه النعمة العظمى أو الانخداع بما عند أهل الكفر من زهرة الحياة الدنيا. والله لو رأيتم حال المؤمن المطمئن في ظل إيمانه، وحال الكافر الحائر رغم توافر أسباب الرفاه له، لعلمتم أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا.

أيها المؤمنون: إذا علمنا خطورة كفران النعم وعاقبة الجحود، فإن الواجب علينا أن نأخذ بأسباب شكر النعم للمحافظة عليها، ولا يكون الشكر بالقول وحده، بل بالشكر قولا وعملا، وقدوتنا في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قام لربه حتى تفطرت قدماه في صلاة الليل، فلما سئل لم يصنع ذلك وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: (أفلا أكون عبدا شكورا!) رواه البخاري. فالشكر عبادة عظيمة تدوم ما دامت الحياة. وقد دلنا الشرع الحنيف على أبرز ما يتحقق به شكر النعم. ومن ذلك ما يلي:

أولا: أداء الفرائض والواجبات على أكمل وجه، وفي طليعتها الصلاة المفروضة. فالصلوات الخمس شكر عملي لنعم الله اليومية، والزكاة شكر مالي لنعمته بالرزق، وهكذا سائر الفرائض. وأداؤها في جماعة وبخشوع وخضوع يزيد العبد قربا من مولاه.

ثانيا: دوام ذكر الله تعالى وحمده على نعمه ظاهرها وباطنها. فمن شكر الله بقلبه ولسانه زاده الله من فضله؛ وقد وعدنا ربنا بذلك صراحة فقال: {لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم: 7]. فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم من الخيرات والبركات.

ثالثا: استعمال النعم في طاعة الله وخدمة دينه، وذلك بأن يكون العبد داعية إلى الخير مصلحا فيمن حوله، مستثمرا ما آتاه الله من علم أو مال أو جاه في نشر الحق ودعوة الخلق إلى ربهم. فنعمة العلم شكرها بتبليغه وعدم كتمانه، ونعمة المال شكرها بإنفاقه في سبيل الله ومساعدة المحتاجين، ونعمة القوة شكرها بنصرة الضعيف والمظلوم، وهكذا. فمن شكر الله على النعمة أن يستعملها فيما يحب الله. وقد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة والدعوة الصالحة بالشجرة الطيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فمن رزقه الله بيانا أو علما فليشكر نعمته بنشر الخير والكلمة الطيبة. 

رابعا: اجتناب المعاصي والبعد عن استخدام نعم الله في ما يغضبه، وهذه من أهم صور الشكر العملي، فمن شكر الله على النعمة أن لا يعصيه بها؛ فلا يستخدم سمعه أو بصره أو جوارحه في حرام. هل من شكر نعمة المال أن ينفق في الخمر والمخدرات والمحرمات؟ هل من شكر نعمة الجوارح أن يستعملها صاحبها في اللهو المحرم والفواحش؟ أبدا. بل كفر النعمة استعمالها في معصية المنعم. فليحذر المسلم أن يقابل الإحسان بالعصيان فيزول عنه الإحسان.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

عباد الله: إن الشكر كما قال أهل العلم درجة عالية من أعظم درجات الإيمان، وفضل الشكر عند الله عظيم، حتى قال بعض السلف: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر. فمن شكر الله حق الشكر، فقد استوجب المزيد من الخيرات في الدنيا، والمزيد من الأجر في الآخرة. قال تعالى: {وسيجزي الله الشاكرين} [آل عمران: 144].

أيها المسلمون: نكرر الوصية لأنفسنا ولجميع المسلمين: احفظوا نعمة الله عليكم بشكرها وطاعته، وإذا رأيتم نعمة فأكثروا من قول "الحمد لله" واصرفوها فيما يرضيه سبحانه، وتضرعوا إلى الله أن يديم فضله عليكم. كان من دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) رواه أبو داود. فلندع جميعا بهذا الدعاء، سائلين الله القبول والثبات.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة