الأخوّة في الله

0 1

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي ألف بين قلوب المؤمنين، فصاروا بنعمته إخوانا، وجعل الأخوة الصادقة سبيلا للفوز برضوانه، نحمده سبحانه ونشكره، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(آل عمران:102)..
أما بعد، معاشر المؤمنين:

في زمن تتقاذف فيه الأمة أمواج التفرق، وتمزقها رياح النزاعات والخلافات، وتضعف فيه روابط المودة والمحبة، تشتد حاجتنا ـ أفرادا ومجتمعات ـ إلى إحياء أصل من أصول قوتنا، وركيزة من ركائز عزتنا وسعادتنا، ألا وهو: "الأخوة في الله"..
حديثنا اليوم عن: " حقوق هذه الأخوة ومقتضياتها"..

أيها المسلمون : جاء الإسلام ليزكي النفوس، ويقيم صرح الأمة على أساس متين من المحبة، وجعل من الأخوة في الله حجر الزاوية في البناء، وسبب تماسكها وصلابتها . وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم مشروع الأخوة منذ أول لحظة، فآخى في مكة بين من اختلفت ألوانهم وألسنتهم وأصولهم، لكنه جمعهم تحت راية "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، آخى بين حمزة القرشي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، ليقول للعالم كله في كل زمان ومكان: هذه أمة لا تعرف التفاضل إلا بالتقوى، لا بالعرق ولا بالنسب، ولا بالمال والمنصب والجاه
أبي الإسلام لا أب لي سواه   إذا افتخروا بقيس أو تميم

ثم مضى صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة إلى المدينة المنورة يتمم هذا البناء، فآخى بين الأوس والخزرج بعد أن مزقتهم الحروب، فصاروا إخوة متحابين، بعد سنوات من الدماء والثأر.. ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، فصاروا كالجسد الواحد، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويبذل له دون أن يسأل، حتى تقاسموا المال والمأوى، فكانوا مثالا عجيبا للبذل والإيثار، ونزل فيهم قول الله تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}(الحشر:9)..
هذه الأخوة التي جمعت بين المهاجرين والأنصار لم تكن قائمة على مصالح أو منافع وقتية، بل بنيت على الإيمان والتقوى، وهذا هو سر قوتها..
فإذا وجدت صداقة لا تقوم على الإيمان، فهي عرضة للزوال بزوال أسبابها، وإذا خلا الإيمان من أخوة صادقة، فهو إيمان ناقص لم يؤثر في صاحبه، ولذا جمع الله بين الإيمان والأخوة في قوله: {إنما المؤمنون إخوة}(الحجرات:10)، وقال سبحانه: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}( الزخرف: 67)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي) رواه أبو داود.
تأملوا معي هذا المشهد البديع من صور الأخوة، حين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع رضي الله عنهما، فقال سعد: "يا عبد الرحمن! إني أكثر الأنصار مالا، فاقسم مالي بيني وبينك، ولي زوجتان، أطلق واحدة لك، فإذا انقضت عدتها تزوجتها"، فرد عبد الرحمن بن عوف قائلا: "بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلني على السوق".. وانطلق عبد الرحمن بن عوف إلى السوق وتاجر، فربح وتزوج من ماله امرأة من الأنصار..
فلئن سألت: من الذي يعرض ويعطي الآن عطاء سعد بن الربيع؟ فالجواب: وأين من يتعفف الآن عفة عبد الرحمن بن عوف؟!! ولولا أن هذا الحديث في أعلى درجات الصحة ـ رواه البخاري وغيره ـ لقلنا: إن هذه القصة من الأساطير أو الرؤى الحالمة..

عباد الله: من أعظم النعم التي امتن الله بها على عباده المؤمنين: نعمة الأخوة في الله، إنها رابطة قلبية لا تصنعها القوانين، ولا تفرضها الأنظمة، بل يغرسها الله في القلوب ويؤلف بها بين الأرواح، قال الله تعالى: {لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}(الأنفال:63)..
أخوة تجعل المسلمين كالجسد الواحد، مهما اختلفت بلدانهم وجنسياتهم، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم.
وهذه الأخوة التي نتحدث عنها ونرجو أن تعم مجتمعاتنا وتحيا في نفوسنا وواقعنا، لها حقوق وواجبات كثيرة، منها:

قضاء الحوائج بحسب القدرة والاستطاعة: فمن حق أخيك المسلم عليك أن تعينه ما استطعت، وتكون له عونا في شدته، وسندا في حاجته، فإن في ذلك أجرا عظيما عند الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) رواه مسلم.
وإن عجز أخوك عن قضاء حاجتك، فاعذره ولا تسئ به الظن، فربما حال بينه وبين عونك أمر لا تعلمه، وتمسك بوصية الصالحين: "التمس لأخيك عذرا، فإن لم تجد له عذرا فقل: لعل له عذرا لا أعلمه"، وإن قضى حاجتك، وساعدك على أمرك، فاحمد الله عز وجل، وقم بشكر أخيك..
عباد الله: وإذا كانت الأخوة الصادقة تظهر في قضاء الحاجات وتقديم العون، فإنها كذلك تتجلى في أعظم صورها حين يحرص الأخ على صلاح أخيه، إرشاده إلى الخير، والأخذ بيده برفق إلى ما يرضي الله، وهنا يأتي حق النصيحة..
فمن أعظم حقوق الأخوة: حق النصيحة، تلك النصيحة بالكلمة الطيبة التي تنبع من قلب محب، هدفها البناء لا الهدم، والتقويم لا التشهير، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن) رواه أبو داود.
ولكن ينبغي أن نعلم أن النصيحة في الإسلام لها آداب وضوابط، ولا يليق أن تقدم إلا في إطار من الرحمة والرفق والإخلاص، لا بغلظة ولا تعنيف ولا استعلاء.. فينبغي للناصح أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يتلطف معه، ويختار أجمل الألفاظ، وأحسن الأوقات، وألين العبارات، وأن يخلص نيته، ويتثبت من الأمر قبل أن يعاتب، وأن تكون النصيحة في السر ما أمكنه ذلك.
قال الإمام الشافعي:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس       نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه

أيها الأحبة: وإذا كانت النصيحة لب الأخوة وروحها، فإن الستر هو سياجها الحامي والحافظ لها، فالمؤمن ينصح بلطف، ويستر برحمة، ولا يعين الشيطان على أخيه بفضيحة أو تشهير..
ومن أخلاق الإسلام أن يجتمع في قلب المؤمن النصح والستر معا.. 
ولذلك فإن من حقوق الأخ على أخيه: حق الستر..
والستر خلق نبوي، ومنهج رباني، يحفظ به العرض، وتبقى به المحبة، وتدوم به الأخوة، وما من أحد إلا وله عيوب وأخطاء، وكلنا نرجو من الله سترها..
فإن رأيت أخاك زل، أو وقع في خطأ، فاستره، وانصحه برفق، فإن الستر باب من أبواب الرحمة، وهو دليل على صدق الأخوة، وسلامة القلب، قال صلى الله عليه وسلم محذرا: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أبو داود.
وقال الشافعي: "من نصح أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن نصحه علانية فقد فضحه وشانه"..
إياك أن تهدم جسور الصحبة والأخوة لمجرد زلة وخطأ، فذلك خلاف الوفاء، ومناف للإيمان وللإنصاف، لا تجعل زلة أخيك وخطأه نهاية العلاقة بينكما، بل اجعلها بداية ستر، ودافعا للنصح، وسببا في مزيد من الحب والوفاء
ومن ذا الذي ترجى سجاياه كلها   كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..

الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد، عباد الله:

ومن حقوق الأخوة: أن تنصر أخاك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: تحجزه -أو تمنعه- من الظلم؛ فإن ذلك نصره) رواه البخاري.. فإن عجزت عن نصرته بيدك، فانصره بكلمة حق، فإن لم تستطع، فبمشاعر المواساة وذلك أضعف الإيمان..
ومن حقوق الأخوة أيضا: القيام بالحقوق الحياتية التي تبقي الود حيا، قال صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) رواه البخاري.

وختاما، أيها الإخوة الكرام: هنيئا لمن تحقق بالأخوة والمحبة في الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله، تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس) رواه أبو داود.
الأخوة في الله، حياة وحقوق، تبني الأفراد المجتمعات، ورابطة عابرة للحدود والأوطان واللغات..
لو كبرت في جموع الصين مئذنة   سمعت في المغرب تهليل المصلين
إذا اشتكى مسلم في الهند أرقني     وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
أرى بخارى بلادي وهي نائية       وأستريح إلى ذكرى خراسان
وأينما ذكر اسم الله في بلد           عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد صفوفنا، واجمع شملنا، واربطنا برباط الأخوة فيك، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا..
وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..
 

 

مواد ذات صلة

المكتبة