حلم الله.. إمهال لا إهمال

0 0

الحلم خلق جميل، ووصف نبيل، وهو أفضل ما يتعامل الناس به بعضهم مع بعض..
وفي لغة العرب، الحلم: كظم الغيظ، وضبط النفس، وحملها على الصفح والعفو، وصرفها عن الانتقام ممن أساء وتعدى وظلم.
وقيل: الحلم معالجة الأمور في تؤدة وحكمة واتزان، وعدم العجلة في المعاقبة.

هذا بالنسبة للبشر، وأما حلم الله تعالى فنحن وإن أثبتنا له ذلك الاسم والوصف، إلا أننا نعلم يقينا أننا عاجزون عن إدراك كنهه، ومعرفة حقيقة وصفه؛ إذ لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبهه الأنام، {ليس كمثله شيء}، {ولا يحيطون به علما}.
غير أن أهل العلم قالوا وتكلموا في هذا بما فتح الله عليهم، فقالوا:
الحليم: ذو الصفح والأناة، الذي لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا عصيان المسرفين، ولا يعجل بعجلة المتعجلين.
وقيل: الحليم الذي لا يعجل بالعقوبة على المذنبين، بل يفتح لهم باب التوبة، ليصلح العبد ما أفسد، ويدرك ما فات.
وقيل: الحليم هو الذي ستر بعد علمه، ثم أمهل بعد ستره، ولم يعجل بالانتقام مع غاية الاقتدار على خلقه.

فالحلم إمهال بلا إهمال، وتأخير للعقوبة من غير ضعف ولا عجز ولا إخلال..
ولذلك يقترن الحلم دائما بالحكمة، ليعلم أنه سبحانه لا يؤخر عقوبته عبثا ولا نسيانا، وإنما لحكمة بالغة قضاها، يستوجب الحمد على اقتضاها. قال سبحانه {إن الله كان عليما حكيما}[الإنسان:30].
والحلم يقترن كذلك بالعلم: فلا يكون حلمه عن جهل بأحوال عباده ـ حاشاه ـ {والله يعلم ما في قلوبكم والله يعلم ما في قلوبكم ۚ وكان الله عليما حليما}[الأحزاب:51].
كما يقترن الحلم بالقوة والقدرة؛ لأن حلم الضعيف عجز وخور؛ كما قال المتنبي:
كل حلم أتى بغير اقتدار .. .. حجة لاجئ إليها اللئام
والضعف لا يتصور مع الله، فهو سبحانه هو القوي العزيز، وهو على كل شيء قدير.

مظاهر حلم الله
أما مظاهر حلم الله تبارك وتعالى في خلقه فهي كثيرة.. منها:
ـ إمهاله للكافرين المشركين
نعم، الذين يكفرون بالله تعالى ويشركون معه غيره، والذين يكذبونه ويشتمونه، كما جاء في الحديث القدسي: (كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يكذبني وشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يشتمني أما تكذيبه إياي فقوله: إني لا أعيده كما بدأته، وليس آخر الخلق بأعز علي من أوله، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الله الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد)[رواه أحمد وأصله في البخاري].

فهؤلاء الكافرون المشركون، يكفرون به عز وجل، ويشركون في عبادته غيره، ومع ذلك يرزقهم ويسترهم، ويكلؤهم بالليل والنهار، ويدعوهم للتوبة والعودة، فاذا عادوا بعد كل ذلك قبلهم، وغفر لهم، وبدل سيئاتهم حسنات، {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ۗ وكان الله غفورا رحيما}[الفرقان:70].

ـ إمهاله للعصاة المذنبين
مع أنه يراهم في عصيانهم، ولا يخفى عليه شيء من أمرهم، بل يعلم حالهم وهم يستخفون من الناس ولا يستخفون منه، ومع تمام قدرته عليهم، يحلم عليهم لعلهم يرجعون؛ كما قال ابن القيم:
وهو الحليم فلا يعاجل عبده .. .. بعقوبة ليتوب من عصيان
وهو القائل سبحانه: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمىۖ فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا)[فاطر:45].

ـ إمهاله للطغاة المجرمين
نعم.. فهو يمهل المتكبرين الظالمين لعلهم يرجعون، وكذلك ليرى ويبتلي صبر المعذبين والمظلومين، وكذلك ليقيم الحجة ويقطع العذر عن هؤلاء المتغطرسين الغاشمين، فإن تابوا قبلهم وهو الغفور الرحيم، وإن لجوا وزادوا أخذهم أخذ عزيز مقتدرففي الحديث (إن الله عز وجل يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته)[رواه مسلم].

ـ  فتح أبواب التوبة للعاصين:
فإنه يمن على العاصين بالتوبة، يفتح لهم أبوابها، وييسر لهم أسبابها، فإن تابوا ورجعوا إليه قبلهم، وعفا عنهم، وصفح وغفر.. والعفو ترك العقاب، والصفح ترك العتاب، والغفر محو آثار الذنب من كل جهة وباب. {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون}[الشورى:25].

ـ وهو سبحانه وتعالى كذلك الحليم، يرى عباده على ما هم عليه من المصائب والمعائب، والمخازي والفضائح، ومع ذلك يستر القبيح، ويظهر الجميل، ولا يؤاخذ بالجديرة، ولا يهتك الستر، بل يعظم العفو، ويكثر التجاوز، ويوسع المغفرة، ويبسط اليدين بالرحمة كما جاء في الحديث (إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده – يعني بالنهار – ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)[رواه مسلم].

حظ المسلم من اسم الله الحليم
أولا: أن يثبت لله تبارك وتعالى هذا الاسم الحليم، وأن يثبت له سبحانه صفة الحلم، فالحليم اسمه، والحلم صفته.
ثانيا: أن يوقن أن حلمه سبحانه مرتبط ومتعلق بعلمه وحكمته، فمهما طال أمد حلمه على الظالمين، أو مد حبال الإمهال للمجرمين والعاصين، فإن ذلك بحكمة وعلم، وكذلك إن قطع حبل الإمهال، أو طوى بساط الحلم، فبعلم وحكمة، وهو سبحانه العليم الحكيم.
ثالثا: أن يتخلق بهذا الخلق العظيم، ويتعلمه "فإنما الحلم بالتحلم"، وليعامل العباد به ويحلم عليهم عسى الله أن يقابله ويعامله بحلمه، فالجزاء من جنس العمل.
رابعا: أن يدعو الله ويسأله بهذا الاسم العظيم؛ طاعة لله تبارك وتعالى في قوله {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}[الأعراف:180].

الحلم.. إمهال لا إهمال
وحلم الله تبارك وتعالى لا يعني رفع العقوبة بالكلية، وإنما الحلم إمهال لحكمة لوقت معلوم، فإما أن يتحقق مراده من حلمه وإمهاله فيتوب العباد إليه، وإما ألا يفعلوا فيأخذهم أخذ عزيز مقتدر، إما في هذه الحياة إن شاء، وإما أن يعاقبهم على هذا بعد الوفاة، فيكون أنكى وأشد وأعظم.
ومن نظر في التاريخ تيقن من هذا تمام اليقين:
انظر إلى قوم نوح، كيف مد الله لهم حبل الإمهال مدا، وبسط لهم بساط الحلم ألف سنة إلا خمسين عدا، فلما ظنوا أنهم لا يعاقبون أبدا، وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن سواعا ولا ودا، عاقبهم الله بالطوفان فأغرقهم فردا فردا، ولم يبق منهم أحدا، فانظر هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟.

وقوم فرعون: لم يكونوا أحسن منهم حالا، ولا أقل ضلالا، فلم يكن عقاب الله لهم أقل وبالا ولا نكالا، قال سبحانه: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين}[الزخرف:55ـ56].
وانظر كذلك إلى قوم عاد وقوم لوط، وأصحاب الرس وثمود، وأصحاب الأيكة، وقوم تبع {كل كذب الرسل فحق وعيد}[ق:14]. وهكذا صنع الله في كل ظالم، وكل مجرم غاشم، على مر التاريخ.

والمسلم حين ينظر إلى سعة حلم الله، وعدم عجلته على الظالمين، وإمهاله لمن يقتلون أولياءه، ويحاربون دينه، ويسومون المسلمين سوء العذاب.. ينبغي أن يعلم أن هذا كله بعين الله ليس بخاف عنه، وأنه سبحانه قضى قضاء لا تستطيع الأرض له تبديلا ولا تحويلا، {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}[النساء:141]، ووعد المؤمنين بالتمكين والنصر على الكافرين، فقال سبحانه: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ۚ إن الله قوي عزيز}[المجادلة:21]، ووعد الله حق لا يتخلف: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ۗ إن الله عزيز ذو انتقام}[إبراهيم:47].

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة