غنى النفس تاج على رؤوس المتعففين

0 0

من سنن الله في عباده أن يجعل العزة في الاستغناء به، والمهانة في التعلق بغيره، فما خضع عبد لمخلوق – طلبا لدنيا - إلا أذله الله، وما رفع يديه إلى السماء إلا رفع الله قدره. وفي زمن كثرت فيه مظاهر السؤال بغير ضرورة، بات لزاما أن نتأمل هدي الإسلام في هذا الباب، لنعيد للنفس المسلمة هيبتها، وللإيمان رونقه، وللكرامة مكانها الأصيل.

إن القلب ليتألم حين يرى في أمتنا مشهدا مؤلما متكررا: رجالا ونساء وصبيانا مصطفين على أبواب المساجد في الجمع والأعياد وصلوات الجماعة، بعضهم يمد يده، وبعضهم يرفع صوته سائلا الناس. مشاهد تجرح عزة الإيمان، وتهين كرامة الإنسان، وتشيع في الأمة روح الاتكال بدل روح العمل والعطاء.
إن هذه الظاهرة — ظاهرة التسول بلا ضرورة — مذمومة شرعا ومرفوضة خلقا، وهي مخالفة لجوهر الإسلام الذي ربى أتباعه على التعفف والاستغناء بالله عن الخلق، قال الله تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا..} (فاطر: 10).
فالعزة للمؤمن في تعففه، وكرامته في قناعته، وغناه في توكله على الله.
لقد جاء الإسلام بتربية النفس على العزة والتعفف، ونهى عن مد اليد إلى الناس إلا عند الضرورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها، فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه"(رواه البخاري).

ما أبلغ هذا التوجيه النبوي! يرسم للإنسان طريق الكرامة، ويغرس في قلبه روح الاعتماد على الله، لا على عطايا الخلق. فالسؤال بغير حاجة يذل النفس، ويضعف الإيمان بالرزاق الكريم، ويجعل العبد أسيرا لنظرات الناس، بعد أن كان حرا بعز التوكل.
وليس كل سائل مسكينا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري:"ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به، فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس".

هؤلاء هم المستحقون للعون، أولئك الذين حبسهم الحياء عن السؤال، فأكرمهم الله بعز النفس وستر الحال.
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن اليد العليا خير من اليد السفلى، فقال:"اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله" (البخاري).

فما أعظمها من تربية! يدعو فيها صلى الله عليه وسلم إلى الكسب الحلال، والبدء بالنفقة على الأهل، والتعفف عن السؤال، لأن من استعف أعفه الله، ومن استغنى أغناه الله.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوز إلى التشبيه العجيب لمن يسأل بغير حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم:"من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر" (رواه مسلم).
أي مشهد أبلغ من هذا؟ سائل يمد يده يظن أنه يجمع المال، فإذا به يجمع الجمر، ويحمل وزره يوم القيامة نارا على وجهه!.

وفي حديث آخر:"لا تلحفوا في المسألة، فوالله، لا يسألني أحد منكم شيئا، فتخرج له مسألته مني شيئا، وأنا له كاره، فيبارك له فيما أعطيته" (رواه مسلم).

إن الإلحاح في السؤال إذلال للنفس، وإحراج للغير، وحرمان للبركة. وما يعطى كرها لا بركة فيه. ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم في بيعة أصحابه بندا عظيما، كما روى الإمام مسلم من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسعة، أو ثمانية، أو سبعة، فقال: "ألا تبايعون رسول الله؟" وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: "ألا تبايعون رسول الله؟" قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: "على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، (وأسر كلمة خفية)، ولا تسألوا الناس شيئا". قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه.
نعم بلغ من قوة هذا الأدب أن بعض الصحابة إذا سقط سوطه من يده وهو على راحلته، لا يطلب من أحد أن يناوله، خشية أن يقع في مخالفة هذه البيعة.

ولقد صور النبي صلى الله عليه وسلم عاقبة السؤال بغير ضرورة تصويرا يهز القلوب فقال:"ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم " (البخاري).
أي يبعث يوم القيامة ذليلا خالي الوجه من لحم الكرامة، بما جناه من السؤال بغير حاجة.

وفي حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم:"إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه" (رواه الترمذي). والمقصود أن المسألة تترك أثرا وعيبا في وجه السائل، وتريق ماء وجهه، وتضيع كرامته بين الناس.
فالسؤال لا يباح إلا لضرورة قاهرة، كمن تحمل دينا في إصلاح، أو أصابته جائحة أذهبت ماله، أو نزلت به فاقة شهد له بها أهل الرأي والعقل. قال صلى الله عليه وسلم لقبيصة بن المخارق رضي الله عنه:
"إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة... ورجل أصابته جائحة... ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه... فما سواهن من المسألة سحت يأكلها صاحبها سحتا" (رواه مسلم).
أما من أعطي من غير مسألة ولا تطلع، فله أن يأخذ ما أعطي برضا المعطي، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه فتموله، فإن شئت كله، وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك" (متفق عليه).

إن السؤال من دون حاجة دليل ضعف في الإيمان والتوكل، إذ قال صلى الله عليه وسلم:"من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل" (رواه الترمذي).
بل وعد صلى الله عليه وسلم من كف عن سؤال الناس بالجنة، فقال لثوبان رضي الله عنه:"من تكفل لي ألا يسأل الناس شيئا أتكفل له بالجنة" (رواه أبو داود).

ما أحوج أمتنا اليوم إلى إحياء خلق التعفف، وغرسه في النفوس منذ الصغر؛ أن نعلم أبناءنا أن الغنى غنى النفس، وأن الكرامة في الاستغناء بالله، وأن السؤال بغير ضرورة مهانة في الدنيا وخزي في الآخرة.

إن من أعظم ما يطهر القلب ويعلي الهمة أن يعود العبد نفسه على القناعة، وأن يربيها على قول النبي صلى الله عليه وسلم:"ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس" (رواه الترمذي).

فالعز في القناعة، والغنى في الرضا، والكرامة في ترك السؤال إلا لضرورة. ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغنى يغنه الله.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة