- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:السيرة والأخلاق
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، إله الأولين والآخرين، المحمود في كل وقت وحين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأد الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وطاعته، فهي وصية الله للأولين والآخرين. {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} [الحشر: 18]، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (٧٠) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
معاشر المسلمين: من الأمراض الاجتماعية والآفات اللسانية التي ابتلي بها كثير من الناس، وانتشرت في أوساطنا وفي بيوتنا ومجتمعاتنا ومجالسنا ومنتدياتنا ما يعرف بـ الغيبة. وهي مرض خفي، لا يكاد يسلم منه إلا من عصمه الله، ومع ذلك فإن خطورته في ديننا عظيمة، ووعيده شديد، فهي المشتتة للقلوب والمفرقة للكلمة.
لقد شبه الله سبحانه وتعالى الغيبة في كتابه الكريم بأبشع صورة، فقال جل شأنه: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم} [الحجرات: 12].
فيا لله! أي تشبيه هذا؟ أن يأكل الإنسان لحم أخيه ميتا! هذا التشبيه يصور بشاعة الفعل وقذارته، فكما أن النفوس السوية تنفر من أكل لحم الميت، فلتنفر كذلك من ذكر أخيك بما يكره.
والغيبة يا عباد الله: هي أن تذكر أخاك في حالة غيبته وعدم تواجده بما يكره مما هو فيه، أما إذا لم يكن هذا الأمر فيه فهذا يعد من البهتان وهو من أعلى الكذب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) رواه مسلم.
أما إذا كان أخوك لا يكره ذكر هذا العيب أو الأمر فلا يعد ذلك من الغيبة المحرمة، كما أن ذكرك له في حال حضوره وتواجده أمامك لا يعد من الغيبة، بل يأخذ صورة أخرى حسب المقام.
أيها المسلمون: ولا يغتاب إلا أحد رجلين:
رجل نسي الله، ونسي موعده ولقاءه، فهذا همه أن يتفكه في أعراض المسلمين، وأن يأكل لحوم المسلمين، كما ورد في الآية.
ورجل آخر ركبه الهوى، وأراد أن يتشفى في الأعراض، وأن ينتقم لنفسه، فشغل نهاره وليله باغتياب عباد الله عز وجل، كما ورد في الحديث السابق. (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته).
معاشر المؤمنين: للغيبة مخاطر وآثار سيئة عدة:
فمن مخاطرها: أنها اعتداء على الأعراض، فهي تعد سافر على عرض المسلم، الذي جعله الإسلام مقدسا كدمه وماله. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) متفق عليه.
ومن آثارها السيئة: أنها سبب لحرمان العبد من دخول الجنة أو تأخيره عنها، وكذلك سبب للعذاب في القبر والآخرة؛ فقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: (إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) متفق عليه. والنميمة شقيقة الغيبة في الإثم والفساد.
ومن آثارها السيئة: تضييع الحسنات فإنها تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فالغيبة دين لا بد من سداده من حسناتك يوم القيامة.
واعلموا عباد الله: أن الغيبة ليست مقصورة على القول الواضح فقط، بل لها مظاهر وصور متعددة قد يقع فيها المرء وهو لا يدري منها:
ذكر العيب باللسان: وهو أشهر صورها، كأن تقول: فلان بخيل، فلان قصير، فلان سيئ الأخلاق، إلخ...
ومنها الإشارة والغمز واللمز: فقد تكون الغيبة بالإشارة باليد، أو بالعين، أو بالابتسامة الساخرة عند ذكر الشخص الغائب، عن عائشة، قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، قال غير مسدد: تعني قصيرة، فقال: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) رواه أبو داود.
ومنها الكتابة والتدوين: فالغيبة في أيامنا هذه قد تكون بكتابة تعليق، أو تغريدة، أو رسالة إلكترونية تسيء إلى شخص غائب.
ومنها التهكم والتقليد: كأن تقلد طريقة مشي شخص، أو طريقة كلامه، أو غير ذلك بقصد السخرية منه وهو غائب.
ومنها الغيبة بقصد المدح: كأن تقول: "فلان مسكين، والله، نيته صافية لكنه غبي"، أو "فلان جيد لكن الله لا يبتلينا بما يصدر منه أو يقع فيه، والحمد لله مما عافانا مما فيه من البلاء في دينه أو خلقه" وهكذا؛ فتبدأ بمدح قليل ثم تختم بذم كبير.
عباد الله: وللسلف مواقف مع الغيبة وأهلها:
أتى رجل إلى الحسن البصري رحمه الله فقال: "يا أبا سعيد، فلان بن فلان اغتابك صباح هذا اليوم، سبك وشتمك في المجلس، فقال انتظر قليلا، فذهب فأتى بطبق فوضع فيه رطبا، ثم قال له: اذهب إليه وسلم عليه، وقل له: أهدى لنا حسناته وأهدينا له رطبا، والحسنات أغلى من الرطب".
وأتى رجل إلى جعفر الصادق، فسب رجلا من المسلمين في مجلسه، فقال له جعفر الصادق: "أقاتلت الروم؟! أقاتلت فارس؟! قال: لا. فقال: يسلم منك الروم وفارس ولا يسلم منك المسلمون!!".
وأتى رجل إلى محمد بن واسع، فأخذ ينتقد عباد الله ويغتابهم، فقال محمد بن واسع: "أما ذكرت إذا لففت في الأكفان؟ أما ذكرت إذا وضعت على الخشب وغسلت بالماء بعد الموت؟ أما ذكرت إذا وضع القطن على عينيك وفي فمك؟ قال: نعم ذكرت قال: اتق الله في أعراض المسلمين".
معاشر المسلمين: إن عرض المسلم أمره عظيم، يوم أن يجلس المسلم فينسى الله وموعوده ويتحدث عن أعراض المسلمين بالهوى، ويسب ويشتم استجابة لرعونات النفس، ولقد عرفنا وعلمنا أن من الناس من يسب غيره وهو يعلم أنه أتقى لله منه وأزهد منه، لكنه يعتدي عليه لأسباب دنيوية؛ إما لأنه ما وافقه في مشربه وهواه وطريقته وأسلوبه، أو لأنه خالفه في قضية، أو لأنه ارتفع عليه في بعض الأمور النفعية الكسبية في الدنيا.
فيا أيها المسلمون: الله الله في حفظ اللسان..
لسانك لا تذكر به عورة امرئ *** فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا *** لقـوم فقل: يا عين للناس أعين
معاشر المسلمين: إن من سنن الله في الكون أن من حفظ أعراض المسلمين حفظ الله عرضه، وأن من جرح المسلمين فضحه الله على رءوس الأشهاد، عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) رواه أحمد.
ومن سنن الله أنه يدافع عن المؤمنين، قال تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور} [الحج: 38].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: أوصيكم بتقوى الله في السر والعلن، فهي حبل النجاة من المحن والفتن، وخير زاد ليوم العرض العظيم.
أما بعد:
عباد الله: وما دام أن الغيبة بهذه الخطورة والسهولة في الوقوع فيها فإننا نحتاج للوقاية والعلاج منها، ويكون ذلك :
باستحضار رقابة الله وأن تعلم أن كل كلمة تخرج من فمك مسجلة عليك، قال تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: 18].
ثانيا: بتذكر قبح التشبيه، تذكر دائما تشبيه الغيبة بأكل لحم الأخ الميت، فهذا كفيل بأن يردع النفس عن هذا الفعل القبيح.
ثالثا: العلم بحقيقة الغيبة: فالغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره وهو غائب كما ورد في الحديث، وكلما استحضرت هذا المعنى في كل ما تقوله وتقوم به مع الآخرين حال غيبتهم منعك ذلك من اغتيابهم. فالعلم بوابة العمل.
رابعا: تزكية النفس بالاشتغال بعيوبها، فعلى العاقل أن ينشغل بإصلاح عيوبه بدلا من تتبع عيوب غيره، فمن تتبع عيوب الناس تتبع الله عيوبه، ومن تتبع الله عيوبه فضحه ولو في جوف بيته.
خامسا: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا بدأت الغيبة في مجلسك فأنكرها فورا وذكر الناس بالله، واقطع الحديث فيها، لتكون ممن يحمي أعراض إخوانه.
أيها المسلمون: فلنطهر ألسنتنا من هذه القاذورات، ولنكن مفاتيح للخير مغاليق للشر، ولنجعل مجالسنا مجالس ذكر ووعظ لا مجالس غيبة ونميمة.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، بقول ربنا سبحانه: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} [الأحزاب: 56].

المقالات

