أحوَالُ خَسِيس الِهمَّةِ

0 1135

إن الإنسان المسمى بالحيوان الناطق موضع تجاذب بين أخلاق وطباع العالم السفلي ، وبين صفات وصفاء العالم العلوي :
فيحن ذاك لأرضه بتسفل       ويحن ذا لسمائه بتصعد
قال أحمد بن خضرويه : (( القلوب جوالة : فإما أن تجول حول العرش ، وأما أن تجول حول الحش)) ، وقال بعضهم : " نزول همة الكساح ؛ دلاه في جب العذرة )).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : " الأرواح في الأشباح كالأطيار في الأبراج ، وليس ما أعد للاستفراخ كمن هيئ للسباق " .
خلق الله للحروب رجالا      ورجالا لقصعة وثريد
فإن رفض ذلك الإنسان الارتقاء إلى عليين ، وعشق الظلمة ، ومقت النور ، وأبى إلا أن يهبط بنفسه إلى وحل الشهوات ، فتمرغ فيها ، وانحط إلى نزوات الحمر ، وسفاسف الأمور ، ونزغات الشياطين ، وتثاقل إلى الأرض ؛ سقط في سجين ، وما أدراك ما سجين ، وانحدار دون مرتبة ذوات الحوافر ، قال تعالى : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والأنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف:179) وقال تعالى (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم) (محمد:12) .
فهم كالأنعام ليس لهم هم إلا تحصيل الشهوات :
كالعير ليس له بشيء همة      إلا اقتضام القضب حول المذود
 كما أن الأنعام تسهو ، وتلهو بالطعام ، وتغفل عن عاقبة النحر والذبح بعده ، وهؤلاء أيضا ساهون عما في غدهم .
  بل هم أضل من الأنعام ، لأنها تبصر منافعها ومضارها ، وتتبع مالكها وهم بخلاف ذلك ، قال عطاء : (( الأنعام تعرف الله ، والكافر لا يعرفه )) .

وصف سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ المشركين ، فقال : " رأيت قوما ليس لهم فضل على أنعامهم ، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم و على ظهورهم ، وأعجب منهم : قوم يعرفون ما جهل أولئك ، ويشتهون كشهوتهم )) " .
وإنك إن أعطيت بطنك سوله        وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : " إياكم والبطنة في الطعام والشراب ؛ فإنها مفسدة للجسد ، مورثة للسقم ، مكسلة عن الصلاة " ، ووصف الشاعر أكولا ، يستغرق حياته في نهمه وشهوته ، فقال:
عريض البطان جديد الخـوان           قريب المراث من المرتع
فنصف النهار لكرياســــه          ونصف لمأكله أجمـع
 وعن محمد بن الحنفية قال : " من كرمت عليه نفسه ، هانت عليه الدنيا " ، وقيل لمحمد بن واسع : " إنك لترضى بالدون " ، قال : " إنما رضي بالدون من رضي بالدنيا " .
يا خاطب الدنيا إلى نفسها        تنح عن خطبتها تسلم
إن الـتي تخطب غـرارة           قريبة العرس من المأتم

وسفلة الهمم هؤلاء هم الذين أخبر عنهم الصادق المصدوق بقوله : " وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له (أى : لا عقل له) ، الذين هم فيكم تبعا ، لا يبغون أهلا ولا مالا"   الحديث رواه مسلم.
، فهو قانع بكونه ذيلا ومسبوقا ، وتابعا ، فار من المسؤولية وتبعاتها .
ففيهم يقول الشاعر :
شباب قنع لا خير فيهم   وبورك في الشباب الطامحينا
وهم " الغثاء " الذين أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم بقوله : ( " يوشك الأمم أن تداعى عليكم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها " ، فقال قائل : " ومن قلة نحن يومئذ ؟ " قال " بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن " فقال قائل : " يا رسول الله وما والوهن ؟ " قال " حب الدنيا ، وكراهية الموت " ) . ( رواه أبو داود وصححه الألباني في " الصحيحة " رقم ( 958).
فيهم قال الشاعر
وأفتـح عيني حين أفتحها       فأرى كثيرا ، ولكن لا أرى أحدا
فهم كسقط المتاع ، موتهم وحياتهم سواء ، وفيهم يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ :
" لا يدرون لم خلقوا، ولا المراد منهم ، وغاية همتهم : حصول بغيتهم من أغراضهم ، ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم، يبذلون العرض دون الغرض ، ويؤثرون لذة ساعة ، وإن اجتلبت زمان مرض ، يلبسون عند التجارات ثياب محتال ، في شعار مختال ، ويلبسون في المعاملات ، ويسترون الحال ، إن كسبوا : فشبهة ، وإن أكلوا : فشهوة ، ينامون الليل وإن كانوا نياما بالنهار في المعنى ، ... فإذا أصبحوا ، سعوا في تحصيل شهواتهم بحرص خنزير ، وتبصيص كلب ، وافتراس أسد ، وغارة ذئب ، وروغان ثعلب ، ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى ، لا على عدم التقوى ، ذلك مبلغهم من العلم " ا هـ .

كلما هم أحدهم أن يسمو إلى المعالي ، ختم الشيطان على قلبه : " عليك ليل طويل ، فارقد " ، وكلما سعى في إقالة عثرته ، والارتقاء بهمته ، عاجلته جيوش التسويف والبطالة والتمني ، ودعثرته ، ونادته نفسه الأمارة بالسوء : " أنت أكبر أم الواقع ؟ " .
لا تطلب المجد واقنع             إن المجد سلمه صعب
آخر :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها      واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فبقي مستكينا يرزح تحت وطأة الشهوات ، ويجبن عن أن يثور على واقعه ، أو يفك وثاق همته :
ومن يتهيب صعود الجبال      يعش أبد الدهر بين الحفر
وإن نازعته نفسه إلى طلب المعالي ، والارتقاء بهمته ، واقتحام الأهوال ، والتخلي عن البطالة والعجز والكسل ، زجرها قائلا:
ذريني تجئني ميتتي مطمـئنة     ولم أتقحم هول تلك المـوارد
فإن كريمات المعالي مشوبة      بمستودعات في بطون الأساود
وفي شأنهم وأمثالهم يقول الإمام المحقق ابن قيم الجوزية - رحمه الله ـ :
( لا شيء أقبح بالإنسان من أن يكون غافلا عن الفضائل الدينية ، والعلوم النافعة ، والأعمال الصالحة ، فمن كان كذلك فهو من الهمج الرعاع ، الذين يكدرون الماء ، ويغلون الأسعار، إن عاش عاش غير حميد ، وإن مات مات غير فقيد ، فقدهم راحة للبلاد والعباد ، ولا تبكي عليهم السماء ، ولا تستوحش لهم الغبراء ) ا هـ .

وقال أيضا ـ رحمه الله ـ في الذين حرموا العلم والبصيرة ، والهمة والعزيمة : ( هم الموصوفون بقوله تعالى : (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) (لأنفال:22) ، وبقوله تعالى : (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) (الفرقان:44) وبقوله تعالى : )إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) (النمل:80) بقوله تعالى : (وما أنت بمسمع من في القبور).

وهذا الصنف شر البرية ، رؤيتهم قذى العيون ، وحمى الأرواح ، وسقم القلوب، يضيقون الديار،ويغلون الأسعار ، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار والشنار ، وعند أنفسهم أنهم يعلمون ولكن ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون ، ويعلمون ، ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم ، وينطقون ، ولكن عن الهوى ينطقون ، ويتكلمون ولكن بالجهل يتكلمون ، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت ، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق ، ويتفكرون ويبيتون ، ولكن ما لا يرضى من القول ، ويدعون ، ولكن مع الله إلها آخر يدعون ، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون ، ويقولون : إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ، فهذا الضرب : ناس بالصورة ، وشياطين بالحقيقة ، وصدق البحتري في قوله :
لم يبق من جل هذا الناس باقية     ينالها الوهم إلا هذه الصور

وأحسن من هذا كله قوله تعالى : (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة )(المنافقون:4)
، عالمهم كما قيل :
زوامل للأسفار لا علم عندهم         بجيدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير  إذا غدا      بأوساقه أو راح ما في الغرائر

وأحسن من هذا وأبلغ وأوجز وأفصح قوله تعالى : (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (الجمعة:5) أهـ .

وبالجملة فإن خسيس الهمة قانع بالدون ،لا يسعى إلى المعالي ،همه إشباع بطنه وفرجه،رزقنا الله الهمة العالية .

المصادر :
-علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدم
-صلاح الأمة في علو الهمة للشيخ سيد حسين عفاني

مواد ذات صلة