(9) أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها

4 2322

هي أم المؤمنين ، رملة بنت أبي سفيان ، صخر بن حرب بن أمية القرشية ، أمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ، وأخواها معاوية كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و عتبة والي عمر بن الخطاب على الطائف .

وهي بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس من أزواجه من هي أقرب نسبا إليه منها ، ولا في نسائه من هي أكثر صداقا منها ، ولا من تزوج بها وهي نائية الديار أبعد منها.

ولدت قبل الإسلام ، وكانت تكنى أم حبيبة ، نسبة إلى ابنتها من زوجها الأول ، وهي من الثلة المؤمنة التي أسلمت مبكرا في مكة.

تزوجت عبيد الله بن جحش الأسدي ، وعاشت معه تلك التجربة القاسية التي لاقاها المؤمنون في بدايات الدعوة المكية ، وما انطوت عليه من معاناة مريرة وأحداث مروعة ، ولم يكن ثمة مخرج من هذه الحال سوى هجرة الأوطان وترك الديار ، إلى أرض تسمح لهم بحرية العبادة ، ووقع الاختيار على أرض الحبشة ، وهكذا هاجرت أم حبيبة مع زوجها إلى الحبشة ليظفروا بالأمن والأمان ، ولم تدم سعادتها طويلا ، فقد حدث لها ما لم يكن في الحسبان .

تقول أم حبيبة : " رأيت في النوم كأن عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهها ، ففزعت ، فقلت في نفسي: تغيرت والله حاله ، فلما أصبح الصباح دعاني وقال لي : يا أم حبيبة ، إني نظرت في الدين قبل إسلامي ، فلم أرى دينا خيرا من النصرانية ، وكنت قد دنت بها ، ثم أسلمت ودخلت في دين محمد ، ولكني الآن أرجع إلى النصرانية ، ففزعت من قوله وقلت : والله ما هو خير لك . وأخبرته بالرؤيا التي رأيتها فيه ، فلم يحفل بها ، وأكب على الخمر يعاقرها حتى مات .

فأصابني من ذلك هم وغم عظيمين ، إلى أن رأيت فيما يرى النائم من يناديني قائلا : يا أم المؤمنين ، فأولتها أن رسول الله يتزوجني ، فما هو إلا أن انقضت عدتي ، حتى أتاني رسول النجاشي يستأذن  الدخول علي ، فإذا هي جارية له يقال لها أبرهة ، كانت تقوم على ثيابه ودهنه ، فدخلت علي فقالت : إن الملك يقول لك : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجك إياه ، ففرحت وقلت : بشرك الله بخير ، فقالت لي : يقول لك الملك وكلي من يزوجك ، فأرسلت إلى خالد بن سعيد العاص فوكلته ، وأعطيت الجارية ما عندي من حلي وجواهر مكافأة لها على ما بشرتني به .

فلما كان العشي أمر النجاشي بحضور جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين ، فخطب النجاشي فقال : الحمد لله الملك القدوس السلام ، المؤمن المهيمن العزيز الجبار ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم عليه السلام ، أما بعد : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فأجبته إلى ما دعا إليه ، وقد أصدقتها أربعمائة دينار . ثم سكب الدنانير بين يدي القوم ، فتكلم خالد بن سعيد فقال : الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، أما بعد : فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوجته أم حبيبة ابنة أبي سفيان ، فبارك الله لرسوله . ثم قام ودفع إلي الدنانير ، ثم أرادوا أن يقوموا ، فقال لهم النجاشي : اجلسوا ؛ فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على الزواج ، فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا ".

وتواصل أم حبيبة سرد قصتها قائلة : " فلما وصل إلي المال أرسلت إلى الجارية التي بشرتني ، فقلت لها : إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي ، فهذه خمسون مثقالا فخذيها واستغني بها ، لكنها ردت إلي كل ما أعطيتها ، وقالت : عزم علي الملك ألا آخذ منك شيئا ، وإني قد تبعت دين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلمت لله ، فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام ، وتعلميه أني قد اتبعت دينه ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة أخبرته كيف كانت الخطبة ، وما فعلت بي الجارية ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( وعليها السلام ورحمة الله ) .

لقد احتفلت المدينة بهذا الحدث العظيم سنة 7هـ ، وكان عمرها يومئذ 36سنة ، وأنزل الله تعالى في شأن هذا الزواج المبارك قوله : {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } ( الممتحنة : 7 ) ، يقول ابن عباس رضي الله عنهما : " ..فكانت المودة التي جعل الله بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فصارت أم المؤمنين ، وصار معاوية خال المؤمنين " .

هذا وقد شهد لها القريب والبعيد بالذكاء والفطنة ، والفصاحة والبلاغة ، ، وكانت فوق ذلك من الصابرات المجاهدات ، ويظهر جهادها وصبرها من خلال هجرتها إلى الحبشة مع زوجها ، تاركة أهلها وقومها ، ثم صبرها على الإسلام عندما تنصر زوجها ، مما أدى إلى انفصالها عنه ، فصارت وحيدة لا زوج لها ولا أهل ، وفي غربة عن الديار ، لكن الإسلام يصنع العجائب إذا لامس شغاف القلوب ، فثبتت في موطن لا يثبت فيه إلا القليل ، مما رفع قدرها ، وأعلى منزلتها في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد مواساتها بزواجه منها .

وكان لها مع والدها أبي سفيان وقفة براء من الشرك وأهله ، فإنه لما قدم المدينة راغبا في تمديد الهدنة ، دخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته دونه ، فاستنكر والدها ذلك وقال : " يا بنية ، أرغبت بهذا الفراش عني؟ ، أم أم رغبت بي عنه ؟ "، فأجابته إجابة المعتز بدينه المفتخر بإيمانه : "بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت امرؤ نجس مشرك " .

وأما إسهامها في باب الرواية ، فقد روت عددا من الأحاديث النبوية ، منها ما جاء في "الصحيحين" : أنه لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت أم حبيبة رضي الله عنها بصفرة في اليوم الثالث ، فمسحت عارضيها وذراعيها ، وقالت إني كنت عن هذا لغنية لولا أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا ) .

ولما أحست بقرب رحيلها دعت عائشة رضي الله عنها وقالت لها : " قد كان بيننا ما يكون بين الضرائر ، فهل لك أن تحللينني من ذلك ؟ " ، فحللتها واستغفرت لها فقالت لها : " سررتني سرك الله " ، وأرسلت إلى أم سلمة رضي الله عنها بمثل ذلك ، ثم ماتت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين للهجرة بالمدينة ، وقد بلغت من العمر اثنان وسبعون سنة ، فرضي الله عنها وأرضاها ، وجعل الجنة مأواها.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة