العزة الإيمانية

0 1044

 وقف هارون الرشيد يوما ينظر إلى السماء فرأى سحابة تمر، فخاطبها قائلا: أمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك.
فالسحابة إما أن تفرغ ماءها في أرض إسلامية أو غير ذلك، ففي الأولى سينتفع بها المسلمون في شرابهم وزراعتهم، وفي الثانية سينتفع ببعضها أيضا المسلمون في صورة جزية يؤديها غير المسلمين إلى دولة الخلافة.
هذه الصورة تعبر عن حالة العزة التي وصل إليها المسلمون في سالف الزمان حين كانوا عاملين بدينهم ولدينهم، والمسلمون في هذا الزمان مطالبون بالأخذ بأسباب العزة،

فما معنى العزة؟
إن العزة في اللغة تدور حول: القوة والغلبة، والرفعة والامتناع؛ فهي حالة مانعة للإنسان أن يغلب أو يمتهن. قال ابن الجوزي - رحمه الله -: قال بعض المفسرين: العزة في القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: العظمة، ومنه قوله تعالى عن سحرة فرعون: (وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون) [الشعراء:44]، وقوله عن إبليس: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين) [ص:82].
والثاني: المنعة، ومنه قوله تعالى: (أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) [النساء: 139].
والثالث: الحمية، ومنه قوله تعالى: (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم)[البقرة:206]، وقوله: (بل الذين كفروا في عزة وشقاق)[ص:2].

ومن ذلك نلحظ أن هناك عزة ممدوحة، وأخرى مذمومة:
فالعزة الممدوحة هي التي لله ولرسوله وللمؤمنين، فهي عزة حقيقية دائمة؛ لأنها من الله وبالله الذي لا يغالب ولا يقاوم سبحانه (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) [المنافقون: 8].

أما عزة الكفار فهي في الحقيقة ذل وهوان، قال الله تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) [مريم:81، 82].

وقد أخطأ كثير من الناس طريق العز والغلبة والتمكين، فطلبها بعضهم بالمال، وما علم أن هذا المال فتنة ووبال إن لم يؤد صاحبه حق الله تعالى، بل قد يكون هذا المال سبيلا إلى ذله. قال الحسن: والله ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله. وكم رأينا ذلك في دنيا الناس.
وبعضهم يتعزز بمنصبه وجاهه، وهو ما قد يحقق له عزا مؤقتا، لكنه إن لم يكن على أساس من العدل وحسن السيرة، فإنه حتما لن يدوم، فكم رأينا من رئيس أو زعيم كان يملأ الدنيا ضجيجا إذا به يصبح أسير القضبان في غياهب السجون؛ فتبدل عزه ذلا.

وأخطر من ذلك من يطلب العزة عند الكافرين فيواليهم ويميل إليهم، ولو كان على حساب المسلمين!! وهذا وهم، إذ هو في الحقيقة ذل عاجل، فمن واقع الناس نلحظ أن أول من يتسلط على هؤلاء هم أولياؤهم من الكافرين. قال الله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) [النساء:138، 139]؛ فالارتماء في أحضان الكافرين طلبا للعز هو في الحقيقة أقصر طريق إلى الذل والهوان؛ لأن هؤلاء الكافرين لن يرضوا منا بأقل من الكفر: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) [البقرة:120].

ومن الناس من يعتز بنسبه وقبيلته، وإن كانوا على غير هدى، فعن أبي ريحانة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم في النار".

والحق الذي لا مراء فيه أن من رام العزة فليطلبها من الله بطاعته، والكف عن معاصيه، وقد لخص عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى العظيم في كلمات قلائل، يقول فيها: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله". وقال إبراهيم بن شيبان: "الشرف في التواضع، والعز في التقوى، والحرية في القناعة".
إن المسلم حين يعيش حياة الطاعة فإنه يعيش عزيزا كريما. نعم قد يبتلى لكنه ذو نفس عزيزة، وقد تجلى ذلك واضحا في حياة السلف رضي الله عنهم، حتى في أحلك اللحظات وأشد المواقف وأقساها.
 
مواقف تشهد بعزتهم
وأرجو أن تستحضر معي أيها القارئ الكريم، مشهد العزة الذي يتجلى في حالة بلال رضي الله عنه، وهو يعذب بمكة في حرها، وتوضع الصخرة العظيمة على صدره، لا ليرتد عن الإيمان، ولكن ليكف عن سب آلهتهم أو ليسكت، لكن عزة الإيمان تنطق على لسانه: "أحد أحد" لتظل أنشودة خالدة تترنم بها الأجيال على مدى الزمان، وليصب اليأس في نفوس من عذبوه.
فمن العزيز في هذا المشهد؟ أهو ذلك العبد المستضعف المعذب؟ أم ذلك الكافر المتغطرس؟

ثم انتقل معي إلى مشهد آخر من مشاهد العز واستعلاء الإيمان، متجليا في قصة عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه، حين وقع أسيرا في أيدي الروم، وعلم به ملكهم، فأتى به وراوده عن دنيه، فأبى عبد الله، فعرض عليه الملك نصف ماله فأبى، فحبسه، وآذاه، ومنع عنه الطعام والشراب، ووضع بجواره لحم خنزير وخمرا، فلما انقضت ثلاثة أيام أخرجوه ولم يذق منها شيئا، ولما سألوه قال: والله لقد كان أحله لي - لأنه مضطر - ولكن ما كنت لأشمتكم بدين الإسلام. فيطلب منه الملك أن يقبل رأسه مقابل إطلاق سراحه، فيشترط ابن حذافة إطلاق سلاح جميع أسرى المسلمين، ويوافق الملك، فيقبل ابن حذافة رأسه، ويرجع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ومعه أسرى المسلمين، فيقوم عمر ويقبل رأس ابن حذافة، وهو يقول: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة.
 ثم انظر إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حين يضطهد ويوضع في السجن، فلما أدخلوه جعل يتلو قول الله تعالى: (فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة * وظاهره من قبله العذاب) [الحديد:13].
إنها عزة الإيمان وأنفة الإسلام التي تجعل صاحبها أعز الناس بطاعة الرب جل وعلا، وإن تمالأ عليه أهل الأرض جميعا لأنه يستمد عزته من الله الذي لا يغلب: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) [فاطر:10].
 إن حالة الذل التي خيمت على كثير من نواحي حياتنا إنما سببها البدع والمعاصي والبعد عن شرعة الرحمن، تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري".
كما أن من أهم أسبابها حالة الفرقة والتشرذم التي يحياها المسلمون ، لدرجة أن عدونا صار يستفرد بنا فيضرب هنا اليوم وغدا هناك ولا يتحرك ساكن،وكأن ما يحدث لإخواننا المسلمين لايعنينا ، برغم أن تاريخنا يشهد أننا لم نكن كذلك فيما مضى .فحين استغاثت امرأة مسلمة وقعت في أسر الروم بعمورية بخليفة المسلمين المعتصم،وأطلقت صيحتها المشهورة:واإسلاماه،أجابها المعتصم بملىء فيه لبيك،وجهز جيشا سار به إلى عمورية وأنزل بأهلها شر هزيمة واستنقذ المرأة المسلمة من أيدي المشركين..ولنا هنا ان نتساءل:ما الذي كان يربط بين المعتصم وهذه المرأة المسلمة سوى رباط الإيمان؟.
أسأل الله أن يعزنا بدينه وأن يعز بنا دينه ، والحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة