الإمام البخاري .. أول من دوّن الصحيح

1 2287

ارتضى الله الإسلام دينا للبشرية كلها ، وجعله الدين الخاتم إلى قيام الساعة ، ومن ثم فقد تكفل الله بحفظه وصيانته ، فسخر من خلقه من يذب عن وحيه قرآنا وسنة ، واصطفى علماء بينوا ما تشابه من القرآن ، وميزوا صحيح السنة من ضعيفها ، ويزخر التاريخ الإسلامي بكوكبة من العلماء المخلصين ، الذين نذروا حياتهم لخدمة هذا الدين ، ومن أبرز هؤلاء الإمام البخاري رحمه الله تعالى .

وحياة هذا الإمام الجليل مليئة بالصفحات المشرقة ، فقد اجتمعت فيه كثير من الصفات الحميدة ، والخصال الجليلة ، ونذر حياته لخدمة السنة الغراء ، فنفع الله به ، وبارك في علمه ، وألف كتابه الصحيح الذي اتفقت الأمة قاطبة على صحته ، وتلقيه بالقبول ، وسوف نستعرض بعض الجوانب من حياة هذا العلم ؛ حتى نسلك مسلكه ، ونقتدي بسيرته .

نسبه ومولده

هو شيخ الإسلام ، حجة الأمة ، ناصر الحديث ، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري ، أمير المؤمنين في الحديث كما لقبه بذلك غير واحد من أئمة السلف .

كان مولده في شوال سنة أربع وتسعين ومائة في بخارى ، ونشأ في بيت علم ، وظهرت عليه في طفولته علامات النبوغ والنجابة ، ووهبه الله سبحانه وتعالى ذاكرة قوية تفوق بها على أقرانه ، وقد اشتمله الله برعايته منذ طفولته ، وابتلاه بفقدان بصره في صباه فرأت والدته في المنام إبراهيم عليه السلام فقال لها : "يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك أو كثرة دعائك" فأصبحت وقد رد الله عليه بصره ببركة دعاء أمه له .

طلبه للعلم

بدأ البخاري حياته العلمية من الكتاب ، فأتم حفظ كتاب الله في العاشرة من عمره ، ثم مر على الشيوخ ليأخذ عنهم الحديث ، ولما بلغ ستة عشر عاما كان قد حفظ أحاديث ابن المبارك ووكيع ، وكان آية في الحفظ ، حتى بلغ محفوظه آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلاما ، والشاهد على ذلك ما رواه حاشد بن إسماعيل - رحمه الله - أن الإمام كان يذهب إلى المشايخ مع رفقائه وهو غلام ، فكان يكتفي بسماع الأحاديث دون أن يدونها كما يفعل زملاؤه ، حتى أتى على ذلك أيام فكانوا يقولون له : " إنك تتردد معنا إلى المشايخ ولا تكتب ما تسمعه فما الذي تفعله ؟ " وأكثروا عليه حتى ضاق بهم ذرعا ، وقال لهم مرة بعد ستة عشر يوما : " إنكم قد أكثرتم علي وألححتم فأخرجا إلي ما كتبتموه " فأخرجوا إليه ما كان عندهم ، فزاد على خمسة عشر ألف حديث فقرأها كلها عن ظهر قلب حتى جعلوا يصححون ما كتبوه من حفظه ، فعرفوا أنه لا يتقدمه أحد.

ثم ارتحل في طلب الحديث إلى "بلخ" و"نيسابور" وأكثر من مجالسة العلماء ، وحمل عنهم علما جما ، ثم انتقل إلى مكة وجلس فيها مدة ، وأكمل رحلته إلى بغداد ومصر والشام حتى بلغ عدد شيوخه ما يزيد عن ألف وثمانمائة شيخ ، وتصدر للتدريس وهو ابن سبع عشرة سنة ، وقد كان الناس يزدحمون عليه وهم آلاف حتى يغلبوه على نفسه ، ويجلسوه في بعض الطريق ، يكتبون عنه ، وهو لا يزال شابا لم تنبت له لحية.

مناقبه

وهب الله سبحانه وتعالى الإمام البخاري عددا من الخصال الحميدة ، والمناقب العظيمة ، حتى شهد له علماء عصره بتفوقه على أقرانه ، ولو كتبنا في مناقب هذا الإمام العظيم المؤلفات ما وفينا حقه ، حتى قال عنه رجاء الحافظ : "هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض " ، من ذلك أن الله قد آتاه حفظا وسعة علم حتى روي عنه أنه قال : " لو أردت ما كنت أقوم من ذلك المجلس حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة " وذلك في إحدى المجالس ، ومما يدل على كثرة محفوظاته قوله : " أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح " .

واشتهر الإمام بشدة ورعه ، فقد كان حريصا على ألفاظه عند الجرح والتعديل للرواة ، ومما أثر عنه قوله : " أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا " ، كما اشتهر رحمه الله بالزهد والكرم ، يعطي عطاء واسعا ، ويتصدق على المحتاجين من أهل الحديث ليغنيهم عن السؤال ، وكان وقافا عند حدود الله ، كما كان شديد الحرص على اتباع السنة ، قال النجم بن الفضيل : " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم كأنه يمشي ، ومحمد بن إسماعيل يمشي خلفه فكلما رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه وضع الإمام قدمه مكانها ".

وأعظم خصلة تحلى بها الإمام هي الإخلاص لله تعالى - نحسبه كذلك والله حسيبه - ، فقد كان يريد الله بعلمه وعمله ، وبغضه وحبه ، ومنعه وبذله ، فانتشرت كتبه ، وتلقت الأمة كلها " صحيح البخاري " بالقبول ، حتى عده العلماء أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى .

كتبه ومؤلفاته

ساهم البخاري رحمه الله في التأليف والكتابة ، وأول كتاب يتبادر إلى الذهن هو كتابه العظيم " الجامع الصحيح " المعروف عند الناس بكتاب: " صحيح البخاري " ، وهو أول كتاب صنف في الحديث الصحيح المجرد ، واستغرق تصنيف هذا الجامع ست عشرة سنة ، ولم يضع في كتابه هذا إلا أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وللشيخ تصانيف أخرى مهمة ، مثل: " الأدب المفرد " ، والذي تناول فيها جملة من الآداب والأخلاق ، وبعض الأجزاء الحديثية مثل: " رفع اليدين في الصلاة " و " القراءة خلف الإمام " ، وفي علم التاريخ له : " التاريخ الكبير ، والأوسط والصغير " ، وفي العقيدة ألف رسالة أسماها: " خلق أفعال العباد " ، وفي علم الرجال : " الضعفاء " ، ومصنفات أخرى كثيرة بعضها في عداد المفقود .

محنته ووفاته

تعرض البخاري للامتحان والابتلاء كما تعرض الأنبياء والصالحون من قبله ، فصبر واحتسب ، وما وهن وما لان ، وكانت محنته من جهة الحسد الذي ألم ببعض أقرانه لما له من المكانة في قلوب العامة والخاصة ، فأثاروا حوله الشائعات بأنه يقول بخلق القرآن ، وهو بريئ من هذا القول ، فحصل الشغب عليه ، ووقعت الفتنة ، وخاض فيها من خاض ، حتى اضطر الشيخ درئا للفتنة أن يترك نيسابور ويذهب إلى بخارى ، موطنه الأصلي .

وبعد رجوعه إلى بخارى استتب له الأمر زمنا ، ثم ما لبث أن حصلت وحشة بينه وبين أمير البلد عندما رفض أن يخصه بمجلس علم دون عامة الناس ، فنفاه الوالي وأمر بإخراجه ، فتوجه إلى قرية من قرى سمرقند ، فعظم الخطب عليه واشتد البلاء ، حتى دعا ذات ليلة فقال : " اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، فاقبضني إليك " ، فما تم الشهر حتى مات ، وكان ذلك سنة ست وخمسين ومائتين ، وعاش اثنتين وستين سنة ، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر .. رحم الله الإمام رحمة واسعة ، وأجزل له العطاء والمثوبة ، فقد كانت سيرته منارا يهتدى بها ، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا معه في جنات النعيم .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة