حاجتنا إلى المواعظ

0 851

اعتاد بعض المثقفين المعاصرين ذم الخطاب العاطفي مطلقا والتهوين من شأنه، ويذكرونه - غالبا في مقابل الخطاب العلمي المتزن، والخطاب الفكري العميق؛ ولهذا قد يزهد بعضهم في المواعظ، ويأمر المثقفين وطلبة العلم بالانفضاض عن الوعاظ مطلقا، فحديثهم - فيما يزعم - يصلح للعامة والدهماء والبسطاء..!

ولا شك في أن الخطاب العلمي هو الخطاب الذي ينبغي أن يعتمد عليه، ولكن لماذا نعد الخطاب الوعظي ليس علميا..؟! أهو بالنظر إلى حقيقة الخطاب الوعظي؟ أم إلى ما تعارف عليه الوعاظ؟

ثم ألا يمكن الارتقاء بالخطاب الوعظي ليكون جامعا بين الالتزام العلمي والبناء العاطفي..؟
لقد وصف الله تعالى كتابه العزيز بأنه (موعظة)، فقال سبحانه: (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين)[النور:34]، وقال: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)[يونس:57].

ووعظ الله عز وجل في كتابه العزيز في مواعظ كثيرة، منها قوله: ( إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا)[النساء:58]، وقال: (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين)[النور:17] وقال: (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به)[البقرة:231].

ومن المسائل الجديرة بالتأمل؛ أن بيان كثير من الأحكام الشرعية في القرآن يصدر بالموعظة أو بالأمر بالتقوى أو يختم بأحدهما، ومن ذلك: أن الله لما ذكر أحكام الفرائض قال: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)[النساء:13، 14].
وقال: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين)[البقرة:278]، وفي سياق آيات الطلاق قال الله تعالى: (ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا)[الطلاق:2].
وأمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعظ الناس، فقال: (فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا)[النساء:63].

ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه رضي الله عنهم؛ ومن ذلك ما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب،. فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع؛ فأوصنا...".
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال شهدت الصلاة مع رسول الله، في يوم عيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان، ولا إقامة، فلما قضى الصلاة، قام متوكئا على بلال، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس، وذكرهم وحثهم على طاعته . ثم مال ومضى إلى النساء، ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظهن وذكرهن، وحمد الله وأثنى عليه، ثم حثهن على طاعته.(صحيح النسائي).
ومواعظ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كثيرة جدا، وحسبك أن تقرأ كتاب (الرقاق) في صحيح البخاري لتقف على شيء كثير من مواعظه عليه الصلاة والسلام.

إن الموعظة إحياء للقلب، وكبح لجموح النفس، وإسرافها، وبعدها عن ربها، وغفلتها عن ذكره، والقلب الجامد الذي لا يتأثر بالموعظة كالصخرة الصماء، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع". كما أن العين المجدبة التي لا تبكي من خشية الله لا نور فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله".

تأمل تربية النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، وسوف ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم بمواعظه استطاع أن يطهرهم من حظوظ النفس وأهوائها، ويلين قلوبهم، ويجعلها تتعلق بالآخرة، ومن أبلغ الأمثلة على ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: " أن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل. فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم؟

سبحان الله! موقف عجيب استثار بعض الأنصار رضي الله عنهم، وكاد يذهب ببعضهم مذهبا بعيدا؛ لكن انظر إلى موعظة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، وكيف أنه هذب نفوسهم، وطهرها من علائق الدنيا.. مواعظ يسيرات؛ لكنها تجاوزت الآذان لتستقر في القلوب!
قال أنس رضي الله عنه: فحدث ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من قولهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟" فقال له فقهاء الأنصار: أما ذوو رأينا، يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم، قالوا: يغفر الله لرسوله، يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم ؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فإني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به". فقالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا. قال: "فإنكم ستجدون أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله، فإني على الحوض".

إن ذلك كله يؤكد أن الوعظ ليس خاصا بالعامة فحسب، بل إن العلماء والمفكرين وطلبة العلم أحوج ما يكونون للموعظة؛ فهي تهذيب للنفس، وترويض لكبريائها وشططها، تدفع المرء للتجرد في البحث عن الحق، والصدق في التماس الدليل الصحيح، وفي الترجيح بين الأقوال، فلا يتيه به الهوى في دركات التعصب والاعتداد بالنفس وبطر الحق، خاصة في زمن الفتن وانتشار الأهواء والشبهات، ولهذا كان العلماء أكثر الناس خشية لله تعالى، وقنوتا إليه. قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)[فاطر:28]. وقال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب)[الزمر:9].

كما أن في الموعظة استثارة للغيرة في قلب الداعية، تدفعه إلى علو الهمة، وصدق العزيمة، وتطرد عنه غبار الفتور والعجز، وتستنهضه لبذل قصارى الجهد في تبليغ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفيها تثبيت لأهل العلم والدعوة أمام مكايد الأعداء، وأحاييل المفسدين، وظلم الملأ المستكبرين.
وفيها إحياء القلب المعرض الذي أسره الهوى، وسيطر عليه التقليد والتبعية، فجعله يدبر عن ذكر الله تعالى. قال سبحانه وتعالى: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة )[سـبأ:46].

إن مواعظ القرآن القرآن والسنة قوارع تهز القلب وتحييه، وتزيل الران عنه، وتجعل العبد المؤمن يتوجه بكليته إلى ربه سبحانه وتعالى تائبا منيبا إليه.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين المنبيبين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ــــــــــــ
البيان: عدد (194)

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة