هوامش على تاريخ الحجاج (2)

0 939

**التاريخ يقول غير هذا***
أعني أن التاريخ الصحيح نقلا وعقلا لا يقول: إن الحجاج كان خبيث النية، سيئ الطوية، قتل الزبير ومن معه، وضرب الكعبة بالمنجنيق من أجل أن ينال ولاية العراق.
نعم؛ لا يقول بذلك العقل ولا النقل، بل واقع الأمر أن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه وعن والديه - دعا لنفسه بالخلافة، فبايعه من بايعه، وقعد عنه من قعد، وعارضه وقاومه عبد الملك بن مروان، الذي استتب له الأمر في عامة أرجاء الدولة الإسلامية، فكان لابد أن يقاتل ابن الزبير بصفته خارجا على خليفة المسلمين.
ولسنا هنا لتقييم موقف كل من عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، ووزن وتقدير حجج كل واحد منهما لنبين أيهما كان أحق بالخلافة.
وإن كان لابد أن نبادر - قبل أن يزايد علينا أحد - فنقول: إن فضل عبد الله بن الزبير لا يجحد، ومنزلته لا تنكر، فهو أول مولود للمسلمين في دار الهجرة، وقد فرح به المسلمون جميعا، حيث قد أرجف اليهود بأنهم سحروا المسلمين حتى لا يولد لهم ولد، وأبوه هو الزبير بن العوام، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد أبطال الإسلام، وكانت آثار السيوف في جسده شاهدة ناطقة ببلائه أصدق البلاء في سبيل الله ، ذاك أبوه.
وأمه أسماء ذات النطاقين، حاملة الزاد يوم الهجرة والغار ، وجده أبو بكر الصديق ، وخالته عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق.
ثم هو من العباد الزهاد، المجاهدين الأبرار ، لا أحد يجادل في فضل ابن الزبير ومنزلته هذه قضية مفروغ منها. ولكن:
**هل كان عبد الملك محقا في قتال ابن الزبير؟ ***
أعود فأقول: لسنا هنا الآن - ولا نملك - الإجابة القاطعة لهذا السؤال. ولكن الذي نقطع به أن من قاتل ابن الزبير كان على أسوأ حالاته مأجورا أجرا واحدا؛ بمعنى: أنه قاتله بنية المحافظة على جمع كلمة المسلمين، امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح: "من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم، ويشق عصاكم، فاضربوه بالسيف كائنا من كان". فالذين قاتلوا ابن الزبير قاتلوه بتأويل سائغ، وبنية صحيحة؛ فإن صدق اجتهادهم، فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد. هذا عن أصل القتال.
أما ما حدث من تجاوز وإسراف، فله حكم آخر.
**عمرو بن الزبير يقاتل أخاه:***
ويشهد لما قلناه من أن القضية كانت محتملة، وفيها مجال للاجتهاد، أن عمرو بن الزبير قاد أول جيش خرج من المدينة لقتال أخيه عبد الله بن الزبير. وذلك أنه عندما نجم أول أمر عبد الله بن الزبير بمكة، كان عمرو بن سعيد بن العاص واليا على المدينة؛ فقال لعمرو بن الزبير - ويبدو أنه كان من خاصته - من رجل نوجهه إلى قتال أخيك؟ فقال عمرو بن الزبير: إنك لن توجه إليه رجلا أنكأ له مني، فوجهني إليه. فأخرج له من أهل الديوان عشرات، وخرج من موالي أهل المدينة ناس كثير (...) فعسكر بظاهر المدينة يتهيأ للرحيل، فجاء مروان ابن الحكم إلى عمرو بن سعيد، فقال: لا تغز مكة، واتق الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير، فقد كبر (...) والله لئن لم تقتلوه ليموتن غدا أو بعد غد.
فقال عمرو بن الزبير: والله لنقاتلنه، ولنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم (...) فأرسل إلى أخيه عبد الله: بر يمين الخليفة، واجعل في عنقك جامعة، حتى لا يضرب الناس بعضهم بعضا، واتق الله، فإنك في بلد الله الحرام.
تأمل!! عمرو بن الزبير يقاتل أخاه!! ويقول له: اتق الله، ولا تفرق بين المسلمين!! ويقول لعمرو بن سعيد بن العاص الأموي: لن تجد أنكأ له مني!! ويقول لمروان حينما خوفه من القتال في الحرم: لنقاتلنه ولو في جوف الكعبة.
فالذين اتهموا الحجاج بفساد نيته، وأنه قاتل ابن الزبير، واستحل الحرم من أجل أن يكون أميرا على العراق، هل يستطيع هؤلاء أن يقولوا ذلك عن عمرو بن الزبير؟ وقد فعل نفس ما فعله الحجاج!!
أجزم بأنهم لا يمكن أن يقولوا ذلك، لا تورعا عن اتهام عمرو بن الزبير في نيته فقط، بل لدليل قاطع لا يجدون له دفعا، فقد ثبت أنه حين حضرت الصلاة قبل أن ينشب القتال بين ابني الزبير، حينما حضرت الصلاة تقدم عمرو بن الزبير فأم الناس، وصلى وراءه أخوه عبد الله ابن الزبير. فهل كان عمرو بن الزبير فاسد النية، يتوصل بالقتال في الحرم إلى الحظوة والمنزلة عند بني أمية؟؟
إن قلتم ذلك، فقد اتهمتهم عبد الله بن الزبير أيضا، فكيف يصلي وراء فاسد النية الذي يبيع دينه بدنياه، كيف يصلي خلف من يقول: سنقاتله ولو في جوف الكعبة!!؟
قلت: لسنا هنا (الآن) للنصل بين ابن الزبير وعبد الملك في استحقاق الخلافة، ولا في الحكم على أعمال الحجاج وقتله وقتاله، ولكن كل همنا أولا: براءة الحجاج من فساد النية والاستهانة بحرم الله.
وللكلام بقية

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة