إعلامنا والذاكرة المسلوبة

0 624
  • اسم الكاتب:الدكتور عبد العظيم الديب

  • التصنيف:الإعلام


حينما أنظر في إعلامنا - بكل وسائله - يتأكد لي أنه مسلوب الذاكرة، لا ذاكرة له، وإنما دائما يردد ما يلقى إليه، ويتكلم بما تتناقله وكالات الأنباء، وتدقه آلات (التيكرز).
فإذا تكلموا عن إرهاب الإسلام، أو إرهاب المسلمين، وعن المناهج والثقافة التي أفرزت هذا الإرهاب، وجدت جوقة إعلامنا بكل قوتها تقرع كل آلاتها وراء هذا المايستروا الجبار، ويتبارى الجميع في العزف بكل قوتهم، ملتزمين حرفيا (بالنوتة) يخافون الخروج عليها، حتى لا يكونوا (نشازا).

وتتجاوب (جوقة) المثقفين كتاب صفحة الرأي، مع (جوقة) الإعلاميين، ويخشى العلماء والدعاة أن يتهموا بالتخلف وعدم معرفة (الواقع)، فيتسابقون للحاق (بالجوقة) ويستمر العزف بأفانين وضروب من النغمات، حتى يصيب الناس الدوار، وتسد عليهم منافذ التفكير، فتصدق أن المسلمين إرهابيون، وأن مناهجنا - فعلا - في حاجة إلى تغيير، وأن معاهدنا الدينية فعلا تخرج الإرهابيين، مع أن الواقع يؤكد أنه ليس بين هؤلاء المتهمين بالإرهاب رجل واحد تخرج في كلية شرعية، أو معهد ديني.

والمايسترو (أي الآخرون) يعلمون هذا تماما، ولكن الفرصة واتتهم، فليغتنموها للعبث في مناهج تدريس الدين عندنا حتى يصير (إسلامنا أمريكيا) ظريفا لطيفا: كنافة وقطايف، وياميش وتمور، وقمر الدين، وهريس، وفوانيس في رمضان، وكعك وغريبة في عيد الفطر، وخراف في عيد الأضحى، وحلوى في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وحلاوة زمان: عروسة وحصان.. إسلام (فولكلوري) يسر الناظرين، فتهوي إلينا أفئدة السياح للاستمتاع بمناظرنا الظريفة، والاحتفاظ بالصور التذكارية، ويمرحون في ديارنا في أمن وأمان، وكأنهم يتلذذون بمشاهدة كائنات منقرضة، تعيش في كهف من التاريخ.

أما الإسلام الذي ينهض بالأمة، ويحيي الشعوب، ويعبئ طاقاتها، ويدعوها لريادة الدنيا، والأخذ بيد البشرية، والذي يقعد بأهله مقعد القيادة، فيجب إبعاده عن المناهج الدراسية تماما، بل ويجب التعتيم على مصادره، (وتجفيف ينابيعه) كما تفننت في ذلك دولة عربية، وصارت رائدة في هذا المجال، وتصدر وسائل وبرامج تجفيف الينابيع إلى من يريد.

إن الغرب لا يعني بتعديل المناهج، وتغيير الخطاب الديني غير هذا، إن الغرب يعرف تماما ماذا يريد، ويعرف تماما ما عندنا، ويكفي أن نشير إلى الإحصاءات الآتية:
- عدد المتفرغين للبحث في شؤون العالم الإسلامي في الجامعات الأمريكية كان في سنة 1966م= 363 باحثا. وفي سنة 1986م أصبح 670 باحثا. أي يتضاعف في كل عشرين سنة؛ أي أنه الآن 1340 باحثا.
- أما في مراكز الدراسات المتخصصة فكان في سنة 1977م = 823 باحثا. وفي سنة 1986م = 1582 باحثا. ومعنى ذلك أن العدد الآن يصل 4000.
- أما الدوريات المتخصصة فتصل إلى 3000 دورية باللغة الإنجليزية وحدها.
ورحم الشاعر حافظ إبراهيم إذ يقول:
إن في الغرب أعينا راصدات.. ... ..كحلتها الأطماع فيكم بسهد

كنا نتمنى من إعلامنا أن يقلب السحر على الساحر، وبدلا من أن يقتصر على إعادة ضخ ما يوجهونه إلينا، ويكتفي بأن يكون بوقا، أو مجرد (كورسي)؛ كنا نتمنى أن يستخرج إعلامنا من ذاكرته ما فعله الغرب بنا - وما أفظع ما فعل - قديما وحديثا، وما قاله فينا على لسان علمائه، وخبرائه، وأدبائه، وحكامه، وقساوسته، وحاخاماته، وما أسوأ ما قالوا؛ كان على إعلامنا أن يذكرهم بما فعلوه في البوسنة والهرسك، وما كان منهم في كوسوفو، وعن جرائمهم في ألبانيا، وعن أفاعيلهم في جنوب السودان..

كان على إعلامنا أن يستخرج من ذاكرته ما يواجههم به، ويقول لهم: أنتم الذين تكرهون الآخر!! أنتم الذين يجب أن تتعلموا كيف تتعايشون مع الآخر.
كان على إعلامنا أن يجابههم بما قالوه - وما زالوا يقولونه - فينا، ويقول لهم: أنتم الذين يجب عليهم أن يغيروا خطابهم الديني، بل ويجب عليهم أن يغيروا خطابهم السياسي والأدبي.

كنت أتمنى أن تخرج صحف العالم الإسلامي كلها غداة قال الرئيس برلسكوني: "إن الحضارة الإسلامية حضارة منحطة..." كنت أتمنى أن تخرج صحفنا كلها تحت عنوان واحد: "نحن لم نتاجر في الأفيون، ولم نرغم الشعوب على تعاطيه بالحديد والنار".
كنا نتمنى أن تخرج صحفنا غداة قال وليام بوكين وكيل وزارة الحربية الأمريكية: "إن الإسلام دين وثني، وإن المسلمين أشرار يعبدون صنما، وإن ربي أكبر من ربهم".
كنا نتمنى أن تخرج صحفنا بعنوان واحد: "إن ديننا لا يسمح لنا باستئصال الهنود الحمر، وحرق المحاصيل الزراعية من الحبوب الأمريكية حتى الآن".

واعذروني هذه معان تتداعى من ذاكرة شاخت، فليس عندي "أرشيف" ولا هو من طبيعة عملي.

إن إعلامنا الذي يملك الذاكرة التي تحدثنا عن نجوم الكرة من بوشكاش، وبيليه الجوهرة السوداء، ومارادونا العظيم أقصد الحشاش العظيم. إن إعلامنا هذا لا شك قادر على أن يواجه هذه الحرب الشرسة، لو غير استراتيجيته من مجرد المتلقي إلى الإعلام المقاوم ثم المهاجم، وسيجد في ذاكرته أسلحة قاطعة تجعلنا نكسب المعركة من أول جولة؛ فنحن والله أهل سلام، ولا نريد غير السلام.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة