سورة الفاتحة: موقعها ومناسباتها

2 2201

لسورة الفاتحة مكانة مميزة في كتاب الله المجيد، إذ هي فاتحة ذلك الكتاب، وهي (أم القرآن) وهي (أم الكتاب) وهي (الأساس) ولها غير ذلك من الأسماء التي سميت بها، والتي تدل على مكانة هذه السورة بين سور القرآن الكريم؛ حيث جمعت في آياتها السبع مقاصد القرآن وكلياته.

وفي مقالنا هذا، نطالع بعضا مما جاء في فضل هذه السورة الكريمة، وموقعها من سور القرآن الكريم، وما ذكره أهل العلم من مناسبات بين آياتها، مستفتحين مقالنا بهذا الحديث:

روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال : {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل).

والمراد بـ ( الصلاة ) في الحديث -كما قال شراحه- سورة الفاتحة، سميت بذلك لأن الصلاة لا تصح إلا بها؛ والمراد: قسمتها من جهة المعنى، لأن نصفها الأول: تحميد لله تعالى، وتمجيد وثناء عليه، وتفويض إليه، والنصف الثاني: سؤال وطلب، وتضرع وافتقار.

ثم قال بعض أهل العلم: أشير في (الفاتحة) إلى جميع النعم، فإنها -أي النعم- ترجع إلى إيجاد وإبقاء في الحياة الدنيا، وإلى إيجاد وإبقاء في الحياة الآخرة؛ أما إيجاد الدنيا، فيدل عليه قوله سبحانه: {الحمد لله رب العالمين} فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية، وأما إبقاء الدنيا، فيدل عليه قوله تعالى: {الرحمن الرحيم} أي: المنعم بجلائل النعم ودقائقها التي بها البقاء؛ وأما إيجاد الآخرة، فيدل عليه قوله سبحانه: {مالك يوم الدين} وهذا ظاهر، وأما إبقاء الآخرة، فيدل عليه قوله تعالى: {إياك نعبد} إلى آخر السورة، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة.

وقالوا أيضا: وكانت سورة الفاتحة (أم القرآن) لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها؛ فالآيات الثلاث الأول، شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى، والصفات العلى؛ فكل ما في القرآن من ذلك، فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر، شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق...فكل ما في القرآن فهو تفصيل لما جاء مجملا فيها.

وقريب من هذا قولهم: وجميع ما في القرآن تفصيل لما أجملته الفاتحة، فإنها بنيت على إجمال ما يحويه القرآن مفصلا، فإنها واقعة في مطلع التنـزيل، والبلاغة فيه: أن يتضمن ما سيق الكلام لأجله.

وقد أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن الحسن البصري أنه قال: "إن الله أودع علوم الكتب السابقة في القرآن، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع علوم المفصل في الفاتحة، فمن علم تفسيرها، كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنـزلة".

ورغم تعدد أقوال أهل العلم فيما اشتملت عليه هذه السورة من علوم ومقاصد وحكم، بيد أن كلمتهم قد أجمعت على شمول هذه السورة لكل ما جاء في القرآن، واحتوائها لمقاصد الشريعة في الدنيا والآخرة، ومن هنا كانت فاتحة لهذا الكتاب، وعنوانا عاما يدل على ما جاء فيه من تفصيل وتبيين؛ وبهذا يظهر وجه المناسبة في تصدير هذه السورة لباقي سور القرآن.

ويسعفنا في هذا المقام، نقل بعض مما ذكره ابن القيم حول هذه السورة الكريمة، قال رحمه الله: "اشتملت هذه السورة على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال؛ فاشتملت على التعريف بالمعبود بثلاثة أسماء: مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها، ومدارها عليها؛ هي: الله، الرب، الرحمن؛ وبنيت السورة على الإلهية، والربوبية، والرحمة...والحمد يتضمن الأمور الثلاثة، فهو المحمود في إلهيته، وربوبيته، ورحمته. وتضمنت السورة إثبات المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، وتفرد الرب سبحانه بالحكم إذ ذاك بين الخلائق، وكون حكمه بالعدل. وتضمنت إثبات النبوات. وتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة؛ توحيد العلم والاعتقاد، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية. واشتملت على شفاء القلوب، وشفاء الأبدان؛ فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما: الضلال والغضب؛ فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها. والتحقق بـ {إياك نعبد وإياك نستعين} علما ومعرفة، وعملا وحالا، يتضمن الشفاء من فساد القلب والقصد. واشتملت السورة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل، والرد على أهل البدع والضلال".
 
ولابن القيم في هذا المقام كلام قيم، يمكن الرجوع إليه في كتابه (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة