ضرورة الدعوة إلى الله

1 972

حاجة الإنسانية إلى الرسل ماسة، وضرورة الدعوة إلى الله ملحة، والدعوة في صدر الإسلام أدت مهمتها وحققت غايتها، فأخرجت الناس من الظلمات إلى النور، وجعلت من الحفاة العراة أئمة ودعاة، وفي غزوة تبوك لما تأخر عليهم صلى الله عليه وسلم في وضوئه لصلاة الصبح وكان من عادته صلى الله عليه وسلم في ذلك أن يبعد وكان معه المغيرة بن شعبه، ولما استبطئوا عودته صلى الله عليه وسلم وخافوا خروج الوقت قدموا ابن عوف فصلى بهم، وقد وصل صلى الله عليه وسلم بعد صلاتهم ركعة، فهم المغيرة أن يشعرهم ليتأخر إمامهم فمنعه صلى الله عليه وسلم وقام في الصف مع المصلين، ولما أنهوا صلاتهم قام فأتى بالركعة التي سبقوه بها، فرأى منهم تحسرا وأسفا فقال: "إن الله لم يقبض نبيا حتى يصلي خلف رجل من أصحابه"، ففيه إشعار أن دعوته قد أثمرت وأصبح أصحابه مؤهلين لإمامة العالم وقد كان.

وواصلت الدعوة إلى الله مسيرتها إلى العالم، فمن استقبلها وقبلها بقبول حسن فقد فاز وسعد، ومن عارضها ووقف في طريقها أزيل وأبعد حتى طبقت بتعاليمها المشرق والمغرب، واستوى فيها العرب والعجم، وتوحد تحت لوائها سائر الأمم، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا متعاطفين، كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، متعاونين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ولما طال الزمن وتعددت أساليب الحياة، وخالطت عادات الشعوب مع تعاليم الإسلام، وبعد الناس عن مشارق نور الهداية ومرضت النفوس بالأهواء، وأحضرت الأنفس الشح، ودب في الناس الوهن. وتغلبت الشهوات، وتألهت الرغبات، كما جاء في الأثر: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فدبت العصبية وظهرت الحزبية، وتعددت الطائفية – مزقتهم السياسة دويلات – وتقسمت الدول جماعات، وصارت الحزبية مبدأ، والتعصب لها وفاء، يكيد بعضها لبعض، فأصبحوا غثاء كغثاء السيل، وتداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتهم.

وكذلك الحال في الأفراد؛ فقد غرهم شيطان الحضارة وإبليس المدنية، وزينوا لهم ما ليس بحسن حتى رأوه حسنا، فاعتبروا تقليد العدو حضارة وتطورا، والحفاظ على الدين جمودا وتعصبا، فأخرجوا المرأة من خدرها، وأسقطوا عنها حجابها.

اعتبروا الربا تطورا اقتصاديا، والزنا وشرب الخمر حرية شخصية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدا من الحريات وتدخلا في شؤون الآخرين، فالتبس الحق بالباطل، واستبدل الهدى بالهوى، حتى تكاد بعض بلاد المسلمين تنعزل فيها الدنيا عن الدين، ونادى فيها دعاة السوء "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر"، وقد عادت بعض البلاد في حافرتها، فاستبدلت بوحي السماء قوانين الأرض، وبتحكيم الشرع موازين العقول، فما أشبه الليلة بالبارحة، حتى قيل جاهلية القرن العشرين.

وبناء على هذا كله فإن ضرورة الدعوة اليوم أشد وألزم من أي يوم كان؛ لأن الباطل ألبس ثوب الحق، والفساد زين بما يشبه الإصلاح، والبدع زاحمت السنن، والتقاليد أفسدت المعتقدات.

وهذا يكفي لإطلاق صرخة تملأ الآفاق.. أين الدعاة إلى الله؟ فضلا عما دعا إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من القيام بالدعوة.

ضرورة الدعوة إلى الله في الكتاب والسنة

أولا: الإشارة لذلك في الأمم قبلنا:

لقد نبهت الكتب السابقة قبل نزول القرآن الكريم على أن شعار هذه الأمة وميزتها إنما هي الدعوة إلى الله، كما جاء في قوله تعالى عن مؤمني أهل الكتاب: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } [الأعراف:157].

فقد وصف الله لهم نبينا صلى الله عليه وسلم في كتبهم المنزلة على رسلهم موسى وعيسى، بأنه صلى الله عليه وسلم النبي الأمي، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى آخره. ونلحظ تقديم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقدما على تشريع الحلال والحرام، مما يفيد أنه الأصل في دعوات الرسل؛ لأنه يتضمن إصلاح العقائد، وتوحيد المولى سبحانه، وترسيخ الإيمان بالبعث والجزاء، وهو ما كان من حال النبي صلى الله عليه وسلم أول أمره: مكث ثلاث عشرة سنة بمكة لم يشرع فيها حلال ولا حرام من أركان الإسلام إلا الصلاة ليلة الإسراء في أواخر العهد المكي. مما يدل دلالة قاطعة على ضرورة الدعوة وشدة حاجة الإنسانية إليها. وهذا لقمان الحكيم؛ قال ابن كثير: وكان قاضيا على بني إسرائيل زمن داود عليه السلام، يقول الله تعالى عنه في وصاياه لابنه: { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } [لقمان:17].

وقد كانت بقية باقية من أهل الكتاب قائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كما قال تعالى عنهم: { من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون *  يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين } [آل عمران:113، 114].

إذا كان هذا النص يعطينا تاريخا سابقا لقيام أمة من أهل الكتاب قائمة تنهى عن المنكر وتأمر بالمعروف، فإنا نأخذ منه أيضا ما يسمى بمقومات الآمر الناهي: تلاوة القرآن والصلاة به، والمسارعة في الخيرات، ومعلوم أن قيام الليل من أقوى وسائل الإعانة على أمور الدين والدنيا، ونلحظ ذلك من خلال خطاب الله تعالى في أول سورة المزمل: { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا * إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا *  إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا } [المزمل:1-6].

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وترتيل القرآن، وأعلم بأن ناشئة الليل هي التي تعين وتساعد على تلقي وتنفيذ وأداء القول الثقيل الذي هو الوحي بالتكاليف، فيكون هذا المنهج متحدا للدعاة إلى الله قديما وحديثا.

ونظير تلك الأمة من أهل الكتاب ما جاء التكليف به لهذه الأمة في قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)[آل عمران:104].

ثانيا: ضرورة الدعوة في هذه الأمة:

جاء في حق الأمم السابقة قوله تعالى: { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا * رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما } [النساء:164، 165].

ونظير إقامة تلك الحجة قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } [الإسراء:15]. وقد جاء في حق إمام الدعاة وقدوتهم وقائدهم صلوات الله وسلامه عليه قوله تعالى في سبيل الدعوة: { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا } [الأحزاب:45، 46]. وفي هذا النص نجده صلى الله عليه وسلم قد شارك الرسل قبله في البشارة والنذارة وزاد عليهم أنه كان شاهدا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

أما الشهادة فقد بينها سبحانه وتعالى في قوله: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } [النساء:41]. أما كونه داعيا إلى الله فكما جاءت النصوص: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } [النحل:125]، وقوله: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [يوسف:108]. ثم يأتي الخطاب إليه من الله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [النحل:125-128].

إنه تكليف وتوجيه، تكليف بصيغة الأمر (ادع) ومنهج بالخطوات التي يسلكها مع من يدعوهم، والتنويه على أن هذا العمل سيلقى معارضين وقد يناله منهم ما يستلزم عقوبة فاعله وكيف يكون التعامل مع هذا الصنف من الناس، وأن الصبر عليهم هو سبيل الإحسان والله يحب المحسنين.

وفي موضع آخر: { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين * ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } [فصلت:33-35].

ثم جاء ما يشبه ترسيم الدعوة إلى الله في قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } [آل عمران:104].

قال ابن كثير: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الضحاك: "هم خاصة الصحابة" إلى قوله: "والمقصود من هذه الآية الكريمة أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن مع عموم قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [آل عمران: 110]. والنظر في هذا النص يكون من عدة جهات:

أ‌-   التعبير عن القائمين بالدعوة إلى الخير "بأمة" بدلا من جماعة مثلا مما يشعر بنوعية أولئك الدعاة من أن كل واحد منهم يصلح للإمامة: على حد قوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة } [النحل: 120]، وقول ابن مسعود: إن معاذا كان أمة، فقيل له: هذا في إبراهيم عليه السلام؛ فقال ابن مسعود: إن الأمة معلم الناس الخير، وهكذا كان معاذ بن جبل رضي الله عنه.

ويؤيد ذلك ما جاء في الآية الأخرى في حق الذين ينفرون لطلب العلم في قوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } [التوبة:122]، فسماهم طائفة لأنهم لم يتفقهوا بعد، فلم يستوجبوا الوصف بالأمة.

ب‌- وفي قوله تعالى: (ولتكن) أمر مؤكد باللام، التعبير هنا: ولتكن فيه معنى التكوين بدلا من ولتقم من القيام، لأن معنى التكوين يشعر بما يسمى تشكيل الجماعة، والتشكيل يكون عن طريق جهة مسؤولة، وهو ما سميناه الترسيم، بتخصيص وتفريغ أولئك الأشخاص، وهذا من شدة ضرورة الدعوة إلى الله.

ج‌-  الجمع بين (يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) مشعر بتلازمهما، وقد يدعى بأن أحدهما أعم من الآخر، وأعتقد أن الدعوة إلى الخير أعم؛ لأن الخير أفعل تفضيل حذفت منه الهمزة تخفيفا، كما قيل: خير وشر، والخير عام، كما قال سبحانه وتعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } [الزلزلة:7]، وقد اعتمدت ذلك في هذا المبحث من أن كل أمر بمعروف ونهي عن منكر من منهج الدعوة إلى الله؛ لأن مؤداها الإرشاد إلى الصراط المستقيم.

د‌-  وهناك جهة قلما يراعيها الكثيرون من الكتاب والدارسين في تسلسل الآيات الكريمات في المصحف الشريف، مع شدة أهميتها، وهي ربط النص بما قبله وبعده؛ لأنه هنا يشعر بأثر الدعوة؛ فقبله قوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } (آل عمران:103]، وبعده قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [آل عمران:105].

وهكذا السياق: (واعتصموا بحبل الله جميعا) ثم (ولتكن منكم أمة يدعون) ثم (ولا تكونوا كالذين تفرقوا).

ونأخذ من هذا النسق أن الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يبقي على عصمة الله للأمة بكتاب الله ووحدة كلمتها وتوحيد صفها. وأن تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى تفرقة الأمة واختلافها.

المصدر: ضرورة الدعوة إلى الله وأثرها/ الشيخ عطية محمد سالم (بتصرف)

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة