التشويق في الدعوة

0 778

يبحث الداعية الموفق دائما عن كل سبيل ووسيلة يستهوي بها قلوب المدعوين، ويستميل بها عقولهم وعواطفهم، ويجتذب بها انتباههم؛ نصرة لدعوته، ورغبة في استقطاب أكبر عدد إليها.

ومن أهم وسائل الداعية في استمالة عقول وقلوب وعواطف المستمعين إخراج الحديث عن الجفاف، وتجنيب مجلسه الجمود، والبعد بموعظته عن أن تكون باهتة مملة مما يضعف ـ بل يقتل ـ حيوية المتلقي وفعالية التأثر، ويؤدي في النهاية إلى انفضاض الناس عنه وعن دعوته.

ومن هنا تظهر أهمية قدرة الداعية على إضفاء روح التشويق والتحبيب والحيوية على حديثه وأسلوبه لامتلاك نواصي المدعوين.
وللوصول إلى ذلك يلزم أن يتوفر عدة شروط في الموضوع وفي الأداء أيضا منها:

أولا: ربط الموضوع بواقع المدعوين:
فعند اختيار الداعية لموضوع يعالجه، أو مشكلة يبحث لها عن حل، أو فكرة يطرحها، أو فضيلة يدعو إليها ينبغي أن يكون ذلك مستوحى من واقع الناس المعاش، ومستمدا من روح بيئتهم وصميم حياتهم، خصوصا عند ضرب الأمثال وسرد القصص، وكذا عند اختيار الكلمات والجمل بالبعد عن غريب اللفظ وعالي الأساليب، مع اعتبار تفاوت المستوى العلمي والثقافي والاجتماعي للمستمعين.

وتعتبر معالجة المشكلات الطارئة والحوادث المستجدة في حياة الناس ومناقشة أسبابها وبيان عواقبها وذكر طرق علاجها من أهم أسباب التشويق والانتباه وتحصيل الفائدة والثمرة المرجوة والأثر الطيب لدى المستمع.

في حين أن تجاهل أحداث المجتمع والتغافل عن حل مشكلات الناس يوقع الداعية فيما يسمى "بالعزلة الفكرية" ويضرب بينه وبين الناس بسور ليس له أبواب، ويتسبب في فض الناس عنه ورفضهم دعوته، وهي أكبر خسارة للداعية على الإطلاق.

ثانيا: تجديد وتنويع الأساليب:
إذا دخل الملل على السامع أو المتلقي خرج بقلبه عن مجلس الوعظ وسبح في أحلام اليقظة، أو استسلم لخفقات النعاس.. ورشاقة الداعية وتنقله بين أساليب الدعوة واختراع أساليب جديدة والتنويع في ذلك في اللقاء الواحد يثير شهية المدعوين إلى الاستماع وينفي عنهم الملل الذي يفقد المجلس حلاوته ويعدم فائدته.

فالداعية الموفق كالفراشة التي تنتقل من شجرة إلى شجرة، وكالنحلة التي تستقي من كل زهرة أطايبها، فهو يتنقل بين بساتين الوعظ وطرقه يرشف من كل منها ليكون في النهاية خليطا مختلفا ألوانه فيه شفاء لقلوب السامعين.

فينبغي على الداعية أن يتنقل بين أسلوب القصة المسلية التي يحرك بها العاطفة ويسلي بها النفوس، ويأخذ مواطن العبر والعظة، ثم ينتقل إلى ضرب الأمثال تقريبا للمفاهيم، وتيسيرا على السامعين، وتجسيدا للوقائع، وتصويرا للمشاهد، وإلباسا للخيال لباس المحسوس المشاهد، فيكون أقرب للفهم وأيسر في استخراج الفوائد، وهو من أساليب القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ففي القرآن في الحث على النفقة: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة ...}[البقرة:261].

وفي فضل الإخلاص: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير}[البقرة:265].

وفي بيان أعمال المشركين: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب}[النور:39].

وفي التخويف من الرياء: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون}[البقرة:266].

وكذا السنة فيها بيان فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ... الحديث "(رواه البخاري عن النعمان بن بشير).

وفي فضل قراءة القرآن: "مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب... إلى آخر الحديث". (رواه البخاري)... وغير هذا في القرآن والسنة كثير.

ومن ضرب الأمثال إلى الحوار إن أمكن لتنبيه الغافل وإيقاظ الوسنان، وتفتيح الأذهان كمثل قول العدنان صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أتدرون ما الإيمان بالله؟" متفق عليه. وكقوله: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا ما تقول ذلك يبقي من درنه قالوا لا يبقى من درنه شيئا ..." (متفق عليه). وفي صحيح مسلم: "أتدرون ما المفلس ؟".
على ألا يكون الحوار بابا لإخراج المتحدث عن موضوعه أو لكثرة المداخلات أو الإخلال بنظام المجلس أو الدرس.

ولا مانع من استعمال أسلوب المداعبة أحيانا لإذهاب الكآبة والسآمة وتنشيط الروح، وإراحة العقل لحظيا، وتفتيح النفوس للتقبل، وقد قال جرير بن عبد الله: "ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم"، وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره.

لكن ليحذر الدعاة المغالاة في الدعابة حتى تصبح عادة، فتسقط المهابة ويضعف التأثير، وإنما كالملح في الطعام لا غنى عن قليله، وكثيره يفسده.

ثالثا: انتهاز المناسبات والفرص:
وذلك باستغلال المواقف في إصلاح الناس وتوجيههم، فيكون التعليق أبلغ في التأثير، وأقرب للفهم والمعرفة، مع استغلال استعداد المدعوين النفسي وتهيئهم للقبول، كما روى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت فتناوله، فأخذ بأذنه، ثم قال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: أتحبون أنه لكم؟ قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
ومنه قصة المرأة وولدها في السبي، ومناديل سعد في الجنة.
ولا شك أن انتهاز المناسبة له أثره في تربية الأمة وهداية الأفراد، مع وجود عنصر التشويق لدى السامعين.

رابعا: استعمال وسائل الإيضاح:
وهذه أبلغ ما يكون في تجسيد الفكرة، وترسيخ العلم، والتشويق إلى الموعظة بالتجديد. واستغلال وسائل الإيضاح حسب المتاح طالما لا يخالف الشريعة، وهي تختلف باختلاف الأزمان، وكذلك الأماكن والأفهام، وهي وسيلة نبوية ينبغي للدعاة عدم إغفالها، وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: "خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا وخط خطا في الوسط خارجا منه وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال ( هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا".

 خامسا الاقتصاد في الموعظة:
وهذا يكون على قسمين: الأول: الاقتصاد في الكثرة: فلا يكثر من المواعظ وإنما يتخول الناس بها بين الفينة والفينة، حتى يشتاق الناس إليه ولا يملون حديثه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة خشية السآمة.

و الثاني: الاقتصاد في وقتها: فتكون الموعظة قصدا عدلا، فإن كثرة الكلام ينسي بعضه بعضا، وقد جاء في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه".
فالبعد عن الثرثرة، وتجنب الحشو وتكرر الأفكار، وإطالة المقدمات، والاسترسال في سرد الأدلة والتفاصيل المملة يفقد الموعظة كثيرا من فوائدها، وإنما القصد القصد.

فبهذه الخصال - وربما هناك غيرها - يملك الداعية زمام القلوب، ويؤثر على النفوس، ويرجى له القبول والانتشار بما يعود بالخير على الدعوة وعلى الناس بالمنفعة، والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة