السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعاني منذ سنوات من شعور بعدم الوضوح تجاه ذاتي، فلا أعرف ما الذي أريده فعلا، ولم أكتشف بعد قدراتي وميولي الحقيقية، بدأت هذه المعاناة منذ المرحلة المتوسطة، وعلى الرغم من أنني درست الشريعة وأكملت بها تعليمي الجامعي، إلا إنني ما زلت أفتقر للشغف بما أفعله.
أعاني من شعور دائم بالملل والتوتر، ولا أجد متعة في أي نشاط أقوم به، أتنقل بين الوظائف دون استقرار، وكلما بدأت عملا سرعان ما أشعر بالرغبة في تركه، أشعر بحزن داخلي عميق، وضعف في التركيز والعضلات، وكأنني فاقد للطاقة والمقومات التي تساعدني على التغيير، رغم ذلك، أجد بعض الراحة في الأعمال اليدوية، مثل غسل الأواني، أو إصلاح السيارة.
تمر بي فترات من فقدان الرغبة في الطعام، والنوم، وحتى العلاقة الزوجية، كما أعاني من التفكير القفزي، فأقفز من البداية إلى النتيجة مباشرة دون المرور بالمراحل الطبيعية، وأصبحت أشعر أنني على هامش الحياة بعد أن كنت أتطلع للاندماج في صلبها، تملؤني رغبة شديدة في المعرفة، لكنها غالبا ما تصاحبها مشاعر ارتباك وخيبة، أعيش أياما متشابهة بلا أثر واضح أو ثمرة حقيقية لجهدي، كما أنني أمارس العادة السرية رغم زواجي، ولدي طفلان.
أرجو منكم التوجيه والنصح، وأتطلع إلى تحليل مفصل لحالتي، عسى الله أن يجعل فيه النفع والهداية.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ ... حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكرك أولا على تواصلك مع إسلام ويب، و-إن شاء الله- سوف ننتهج بقدر ما نستطيع منهج الإسهاب والتفصيل، والمهم في نهاية الأمر أن نعطيك ما هو مفيد.
إن وصفك الذي ذكرته في هذه الرسالة يجعلني أقول: إن المشكلة الأساسية أنه قد تسلطت عليك أفكار سلبية، هذه الأفكار وصفها علماء النفس بأنها أفكار مشوهة عن الذات، تقتحم خيال الإنسان، وقد تبدأ هذه الأفكار في التساقط على النفس والتخزين في العقل الباطني والظاهري منذ فترة الطفولة، وبتراكمها وبتضخمها هذا يجعل الإنسان يحس بسلبية شديدة نحو نفسه والعالم من حوله، وتكون رؤيته حول الحاضر والماضي والمستقبل أيضا سلبية.
هذه أيها الفاضل الكريم: تسمى بالنظرية المعرفية للاكتئاب، بمعنى آخر: أن الاكتئاب النفسي ليس وليد اضطراب المزاج نفسه، ولكن اضطراب الفكر المعرفي حول النفس وحول الآخرين والعالم من حولنا، هو الذي يولد الشعور بالكدر، وحين يأتي الشعور بالكدر والاكتئاب يأتي بالمزيد من التشوه المعرفي للإنسان، وهذا يزيد من الاكتئاب أيضا، وهكذا.
إذن: هي بوابات مفتوحة على بعضها البعض، وحلقة مغلقة وغامضة جدا قد يقع فيها الإنسان، ولكن يمكن كسرها، ويمكن الخروج عنها.
يا أخي الفاضل الكريم: أنت تعاني من أفكار اكتئابية، ومن الواضح أنك أيضا لديك الكثير من المؤشرات البيولوجية التي تدل على وجود هذا الاكتئاب، خاصة فيما يخص الأكل والنوم والجنس، فالذي أنصحك به هو أن تجلس جلسة عميقة مع نفسك، انظر إلى إيجابياتك، وهذه الإيجابيات حتى وإن كانت قليلة أنت مطالب حقيقة بأن تنظر لها بصورة إيجابية، وأن تعظمها، وأن تزيد منها، وأن تتجاهل ما هو سلبي.
أخي الكريم: أعظم هذه الإيجابيات أنك في هذه الأمة المحمدية العظيمة، وأنك قد تخرجت من الجامعة، ولك عمل، ولك أسرة، ولك أصدقاء، وغير مبتلى بمرض جسيم.
أخي الكريم هذه إيجابيات عظيمة، لا بد أن تستوعبها ولا بد أن تتذكرها، ولا بد أن تبعث في نفسك فكرا جديدا قائما على ما نسميه بتطوير الذات.
الإنسان يجب أن يفهم ذاته، ويجب أن يقبل ذاته، ثم بعد ذلك يجب أن يسعى لتطويرها، وهذا يفيد كثيرا.
أخي الكريم: أنصحك بأن تدير وقتك بصورة جيدة؛ لأن إدارة الوقت هي من الفنون العظيمة التي تجعلنا ننجح في الحياة، والواجبات أكثر من الأوقات، والإنسان الناجح هو الذي يدير وقته بصورة صحيحة، الشعور بالرضا يأتي من خلال الإنجازات، والإنجازات لا تأتي إلا بإدارة الوقت بصورة صحيحة.
نصيحتي الأخرى أخي الكريم: حاول أن تكون لك رفقة وصحبة طيبة وصالحة، وهؤلاء -الحمد لله- كثر، تجدهم في المساجد، تجدهم في قاعات الجامعات، في أماكن الدعوة، في الأسواق وفي كل مكان.
ابحث عن الذين يعينونك في أمور دينك ودنياك، والسند مطلوب؛ لأن الإنسان كيان اجتماعي، والسلوك مكتسب ومتعلم، فإن كان المصدر طيبا كان السلوك طيبا، وإن كان المصدر سيئا كان السلوك كذلك.
أخي الكريم: هنالك أمور لا بد أن تحاسب نفسك عليها، كمزاولة العادة السرية القبيحة اللعينة، هذا أمر تحت إرادتك، وتحت مسؤوليتك تجاه نفسك، وتجاه دينك، وتجاه زوجتك وأسرتك.
هذه العادة قبيحة مخلة للنفس، محقرة لها، ومهينة لها، وهي فوق ذلك منقصة للدين، فحرر -أخي الكريم- نفسك من هذا الاستعباد البسيط، وسوف تجد آفاقا جديدة عظيمة قد فتحت لك، وأنصحك بأن تمارس الرياضة.
بقي أن أقول لك: توجد أدوية أيضا تساعد في تحسين المزاج، هي ليست الحل الوحيد أو الحل الأبدي، ولكنها ستساهم -إن شاء الله- في زوال وانحسار هذا الاكتئاب.
من أفضل الأدوية التي أنصح بها في مثل حالتك العقار الذي يعرف تجاريا باسم (إفكسر Efexor)، ويعرف علميا باسم (فنلافاكسين Venlafaxine)، أرجو أن تبدأ في تناوله بجرعة 75 مليجراما يوميا، يمكنك أن تتناولها ليلا أو نهارا، استمر عليها لمدة أسبوعين، ثم ارفع الجرعة إلى 150 مليجراما يوميا، ومن وجهة نظري هذه جرعة علاجية معقولة جدا في مثل حالتك.
استمر على هذه الجرعة لمدة ستة أشهر، ثم خفضها إلى 75 مليجراما يوميا لمدة ستة أشهر أخرى، ثم إلى 75 مليجراما يوما بعد يوم لمدة شهر، ثم إلى 75 مليجراما مرة واحدة كل ثلاثة أيام لمدة شهر آخر أيضا، ثم بعد ذلك توقف عن تناول الدواء.
الدواء من الأدوية الجيدة والممتازة وغير الإدمانية أو التعودية، وهو فعال كما ذكرت لك، أسأل الله تعالى أن ينفعك به، وبارك الله فيك، وجزاك الله خيرا، وأرجو أن تكون إجابتنا هذه مقبولة بالنسبة لك، ونشكرك على تواصلك مع إسلام ويب.
والله الموفق.