أشعر بنفور من والدي لأنه لم يكن سندًا لي، فما نصيحتكم؟

0 13

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

أنا شاب، لا أجد أي ميول تجاه والدي من مشاعر الحب والحنان والاشتياق، بالرغم من أنه لم يؤذني إيذاء مباشرا، ولا أتذكر أنه ضربني إلا مرتين طوال حياتي، وأحسن لي من حيث الضروريات، ولكن لا أجد منه أي مظهر من مظاهر العاطفة للأبناء، وكنت لا أجده حين أحتاج إليه في مواقف حياتي اليومية، وأخاف من ردة فعله غير المنطقية لكثير من الأمور التافهة التي يهول منها، فكنت أخفي عليه ولا أصارحه في كثير من الأمور، إذا مررت بموقف صعب لا أجده بجانبي، ولا أتذكر أنه قبلني في حياتي من صغري وحتى كبري! ولم يتابع دراستي في المدرسة، ولم يسأل يوما عن معدلي الدراسي، سواء المدرسي أو الجامعي، ولم يشجعني يوما ما، وهكذا أمور يطول ذكرها كنت أراها من آباء آخرين لأبنائهم.

هكذا رويدا رويدا حتى أصبح هنالك نفور عاطفي بيني وبينه، أنا لا أشتاق له، ولا أشعر أنه الشخص الذي أريد الجلوس إليه، أو إمضاء الوقت معه. يقدم ويفضل مشاهدة التلفاز على أن يجلس مع أبنائه، ونادر الاطلاع على حاجياتنا وتفاصيل حياتنا!

حينما كنت في الغربة كان يطلب من والدتي محادثتي والاستفسار عن أموري، ولم يكن يتواصل معي بشكل مباشر إلا ما ندر، لهذا -وبسبب الكثير من الأمور المشابهة- لا أستطيع التعامل معه بأريحية، وكل تعاملي معه مدروس، وأي شيء أريد إخباره به أعمل له ألف حساب، وأتعامل معه من حيث المشاعر كجار، أو شخص يسكن بقربنا ونحسن إليه.

في إحدى المرات سافرت الأسرة واضطررت للبقاء معه في المنزل وحدنا، وعلى مائدة الإفطار في رمضان كنت لا أتحدث معه، ولا يتحدث معي كأننا شخصان غريبان لا نعرف بعضنا! بينما تمضي بي الأيام، وبدأت أعمل، سبب لي بعض الأمور التي آذتني -وإن لم تكن بشكل مقصود منه-، ولكن كنت أنا المتضرر الوحيد، ولا أستطيع نسيانها، وعكر صفو حياتي لمدة طويلة من الزمن، وبقيت مدة أعاني بسبب فعله، سواء نفسيا أو ماليا.

تدور الأيام لأكبر وأصبح على مشارف الزواج، ولا أجد منه كلمة، أو تعاملا يدل على نضجي، أو الاعتماد علي، لتبقى الفجوة على ما هي عليه.

لأكون صادقا وواضحا أكثر: أنا لا أحب والدي (من حيث مشاعر الحب فقط)، ولا أجد تلك الرغبة في التضحية من أجله، ولا بذل حياتي إرضاء له، ولكن لا تفهموا الأمر على أني أسيء إليه، أو أني عاق له، أو أكن له البغض، أو أتمنى إيذاءه، بالعكس فأنا أطيعه وأسمع كلامه، وبالكاد أعصي له أمرا إن لم يكن في معصية الله، ويراني الناس أني بار به، وأدرك عظم رضاه لرضى الله عز وجل، ولكن هذه المشاعر والميل القلبي لا أجدها في قلبي تجاهه.

الخلاصة: أنا لا أجد الرغبة في التواصل مع والدي إلا في أضيق الأمور، وذلك خوفا من العقوق، فهل هذا طبيعي؟ أنا أشعر أن هذا أمر مكتسب، فهو من فعل ذلك منذ بداية حياتي!

هذا فقط نحو أبي، أما والدتي فعلى العكس تماما، فقد ضحت من أجلنا، وتعاملنا أفضل معاملة، وأنا بار بها حتى النخاع، وأطلب رضاها سرا وجهرا، ولا أعصي لها أمرا، ولا أرد لها كلمة، فما تفسيركم لحالتي؟

ولكم جزيل الشكر.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ عبد الله حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

بارك الله فيك -أخي الكريم -، وأشكر لك تواصلك وحرصك على مراعاة الشرع في حل مشكلاتك الدينية والاجتماعية، وأسأل الله أن يفرج همك وييسر أمرك، ويشرح صدرك، ويجمع شملك مع والديك وأسرتك الكريمة على خير، ويرزقك الزوجة الصالحة والحياة السعيدة في الدنيا والآخرة.

لا شك أني متفهم لمشكلتك، متعاطف معك، لما لا يخفى من أثر افتقار الأولاد لحنان ودفء وعاطفة الوالد؛ إلا أن مما ينبغي أن يخفف من حدة حزنك وغضبك أمور كثيرة، منها:

- استحضار حق الوالد الشرعي في البر والصلة والطاعة والإحسان؛ لقوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23-24].

فالإحسان المأمور به في الآية أخص من العدل، وهو يعني المعاملة بالفضل، وبأحسن من المثل، والمحبة فرع الرحمة المأمور بها في الآية، كما أنها من لوازم شكر المعروف والوفاء بالجميل، فاحرص على تحصيلها ما أمكن.

- عناية والدك بك من جهة توفير الضروريات في المطعم والمشرب، والمسكن، والصحة، والتعليم، وغيرها.
- لم تشتك من والدك الضرب أو السب أو الإهانة لك أو لوالدتك، أو انشغاله عنك بالملهيات من الشهوات المحرمات وغيرها.

- كما أن إدراك أن الأصل في الآباء هو الشفقة والرحمة، مما يجعل اتهام الوالد بالجفاء أو الجفاف العاطفي خلاف الأصل، مما يحتاج إلى حسن ظن وتأويل، فمن ذلك أن بعض الآباء قد لا يحسنون التعبير عن عواطفهم تجاه أولادهم بسبب قلة الثقافة، أو ضعف التربية، أو توهم أن ذلك يتنافى مع ما يجب أن يكون عليه الآباء من شدة وحزم، لتعميق معاني الرجولة في أبنائهم، وربما لكثرة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية عليهم، أو اكتفاء منهم بإناطة هذا الدور على الأم كونها نبع الحنان والعاطفة، فهو من باب توزيع الأدوار بين الوالدين، بدليل ما ذكرته من سؤاله عنك حال سفرك، فإن ثبت هذا الجفاء فلا يبعد أن يكون والدك قد ورث هذا الجفاء العاطفي عن آبائه -وللأسف-، حيث قصور البيئة المنزلية عن توفير العاطفة، وكذا التفكك الأسري، وعدم التعود على لغة الحوار داخل الأسرة، "وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه".

- كذا تعويض والدتك لك بالحنان والعاطفة، والرعاية على أحسن صورتها مما ينبغي أن يخفف من وطأة هذا الجفاء الأبوي، وعدم الشعور بالفراغ العاطفي، حفظها الله وجزاها خيرا.

- اجتهد في تحصيل المحبة لوالدك، وذلك باستحضار إحسانه، والعذر له على أخطائه، فإن لم يمكن -على أسوأ تقدير- فلا أقل من المعاملة له -كما ذكرت- بالبر والطاعة والتقدير "لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال".

- ضرورة التحلي بحسن الصلة بالله وحسن الظن به سبحانه، والمسامحة للنفس وللغير، وعدم حمل الضغائن والأحقاد تجاه الوالد والمجتمع، والتسامي على العواطف والآلام، وتعزيز الثقة بنفسك والأمل، والحرص على النجاح في العلاقة مع الآخرين، وفي حياتك عامة، وفي الحديث: المؤمن ‌القوي ‌خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.

- الاعتبار بالنبي (ﷺ) الذي - وكما هو معلوم - قد نشأ يتيما، ولم يؤثر هذا اليتم وما يتبعه من الافتقار إلى حنان الوالدين كليهما سلبا، بل كان عاملا إيجابيا لاتصافه عليه الصلاة والسلام بمحاسن ومكارم الأخلاق، قال تعالى: {ألم يجدك يتيما فآوى} [الضحى: 6]، ثم قال سبحانه: {فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 9-11]، وصدق الله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107].

- ولا شك أن الزوجة والذرية الصالحة، وبناء الأسرة السعيدة، مما يسهم في تفهم الأمر وتخطي المشكلة وتجاوزها، كما تسهم في تحصيل الشعور بالسعادة والراحة، والحب والحنان، والأمان والاطمئنان.

- اللجوء إلى الله تعالى بتعميق الإيمان بملازمة الدعاء لنفسك ولوالديك، وملازمة الذكر وقراءة القرآن، وتوسيع مدارك العقل بالقراءة والاطلاع، ومتابعة البرامج والمواعظ والمحاضرات العلمية والمفيدة.

نسأل الله تعالى أن يرزقك أخلاق الحلم والعفو والصبر، وسعة الصدر والشكر والرضا بالقدر، والثقة بالله ثم بالنفس، والسعادة والنجاح في حياتك الزوجية والمهنية والأسرية والاجتماعية، وفي أمورك كلها؛ إنه سميع مجيب، والله الموفق والمستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

هذا، وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

الاستشارات