السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيكم على جهودكم، ولدي أسئلة من باب المعرفة، وهي كالتالي:
- ما الضابط الصحيح للتمييز بين الأمراض النفسية والروحية؟ وأقصد: المس، والسحر، والعين، وبمعنى أوضح: كيف نعرف أن الشخص يعاني من اكتئاب سببه نفسي، ويعالج عند الأطباء، أو حزن سببه المس أو السحر، ويعالج عند المشايخ؟
- هل يوجد في علم النفس ما يؤكد وجود أمراض بسبب العين، أو المس، أو قوى خارجية؟
- هل لدى الأطباء المشهورين في الغرب قناعة بوجود عالم آخر يؤثر في الإنسان؟
- هل النصارى مقتنعون بوجود الجن والعين؟
شكرا لكم، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ بن عبدالله حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نرحب بك في إسلام ويب، ونسأل الله لك العافية والتوفيق والسداد.
أيها الفاضل الكريم: سؤالك سؤال مهم، وسؤال جيد، وهو من المسائل التي قد يصعب الإجابة عنها بشكل دقيق.
كما تقرر المحافل العلمية الغربية، فإن الأمراض النفسية تعد من حيث الأسباب متعددة العوامل، وعلى رأس هذه المحافل: الكلية الملكية البريطانية للأطباء النفسيين، والجمعية الأمريكية للصحة النفسية، وتصنف أسباب هذه الأمراض إلى عوامل بيولوجية، أو نفسية، أو بيئية، أو متعلقة بشخصية الإنسان، أو ناتجة عن تناول مؤثرات خارجية.
وهذا يعني: أن الاضطرابات النفسية غالبا ما تكون متعددة الأسباب بصفة عامة، ولذلك فإن العلاج ينبغي أن يكون متعدد الأبعاد أيضا:
- البعد البيولوجي: أي: العلاج الدوائي.
- البعد النفسي.
- والبعد الاجتماعي.
- ونضيف -من وجهة نظرنا نحن المسلمين- البعد الروحي، والبعد الروحي بالمفهوم الغربي لا يعني الدين بالضرورة، وإن كان هناك تداخل كبير بين المفهومين في هذا الجانب، وللأسف ليس هناك مقاييس دقيقة للتفريق بين المرض النفسي والمرض الروحي، وهذه إحدى الإشكالات.
ومما يؤسف له أيضا، أن هناك أعدادا كبيرة من الأطباء النفسيين –حتى من العرب والمسلمين– لا يعترفون بتأثير المس والسحر والعين، في حين توجد مجموعات محترمة من الأطباء تؤمن بذلك، وتقر به، وبلا شك، فإن السحر والمس والعين لها دور كبير في بعض الاضطرابات النفسية.
وهناك أيضا من يقف على الحياد، سواء من الغرب أو غيرهم، خصوصا على مستوى الكنيسة قديما، حيث كانوا يقرون بوجود المس والسحر والعين، وكانوا يؤمنون بالعين إيمانا قاطعا، حتى إنهم كانوا يعتقدون أن شررا كهربائيا يخرج من عين العائن ليصيب به المعيون، ومن هنا جاءت بعض التعابير الشائعة عندهم مثل: "اضرب الخشب" أو (Touch wood)، لأن الخشب –كما كانوا يعتقدون- عازل للكهرباء؛ فيدفع أثر العين، لكن تغيرت هذه المفاهيم بعد ذلك، وأصبح كثير منهم لا يعترف بهذه الأمور، وإن كان بعضهم –في داخله وبحسب قناعته الشخصية– لا يزال يؤمن بوجود هذه المؤثرات.
وأنا أرى أن النموذج الأمثل للفهم، هو أن نقر بأن كثيرا من الأمراض النفسية أسبابها غير معروفة، وإذا كانت كذلك، فلماذا لا نرجعها إلى احتمال وجود تأثير روحي، كالسحر أو المس أو العين؟ هذا هو منطقنا، وكثيرا ما نناقش به من يخالفنا في الرأي، أقول هذا بكل تواضع.
وأعتقد أن الطبيب المسلم مكلف شرعا بأن يؤمن بتأثير السحر والعين والمس، كما ذكر في الكتاب والسنة، ولكن لا بد أن ننبه إلى وجود خلل كبير عند بعض الناس؛ فقد أسرفوا وأفرطوا في نسبة كل شيء إلى هذه العوامل الغيبية، كالسحر والعين والمس، وذهب البعض إلى وضع شروط تشخيصية دقيقة في هذا الباب، وهذا لا نوافق عليه، وهذه الشروط التي يذكرها بعض المشايخ لا أعتقد أنه يعتد بها، بل هي على العكس، أدخلت بعض الناس في الكثير من الأوهام، وجرت عليهم مشكلات نفسية إضافية.
ونحن نعلم يقينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سحر على يد اليهودي لبيد بن الأعصم، لم يكن يعلم بحقيقة ما أصابه، وإن كان قد شعر بتغيرات في حاله، حتى جاءه الوحي من ربه فأطلعه على ما وقع، مع أنه أفضل خلق الله وأقربهم إلى ربه، ثم جاءت القصة المعروفة التي كشف فيها موضع السحر، حيث وجد في مشط وشعر، وقد وضع في بئر، كما ثبت في الروايات الصحيحة.
وقد أخبرنا الله تعالى عن حال سحرة فرعون قبل إيمانهم، أنهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، أوهمو نبي الله موسى -عليه السلام- بقوة سحرهم، {فأوجس في نفسه خيفة موسى}، فطمأنه الله عز وجل بقوله: {قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}، فالسحر كيد باطل، لا يثبت أمام الحق، ولا يفلح أصحابه أبدا.
كون منشؤها خللا بيولوجيا في كيمياء الدماغ، أو ضغوطا اجتماعية مزمنة، أو ظروفا بيئية قاسية، وقد يكون وراءها -في بعض الحالات- مؤثرات روحية، كالسحر أو المس أو العين، هذه أمور نؤمن بتأثيرها كمسلمين بدلالة الشرع، وإن لم تدرك بالوسائل المادية المعتادة.
ولهذا: فإن الرأي الأقرب إلى الصواب، هو أن كثيرا من الاضطرابات النفسية لا ترجع إلى سبب واحد، بل هي نتيجة تداخل عوامل متعددة؛ مما يستلزم مقاربة علاجية شاملة، تأخذ بعين الاعتبار الجوانب العضوية والنفسية والاجتماعية، إضافة إلى الجانب الروحي، الذي لا يقل أهمية، بل قد يكون في بعض الحالات مفتاح الفرج والشفاء -بإذن الله تعالى-.
ومن هنا، فإن الخطة العلاجية لا بد أن تبنى على رؤية شاملة، تأخذ بعين الاعتبار جميع الأبعاد؛ فإذا وصف الطبيب علاجا دوائيا، فليلتزم به، وإن نصح بجلسات للعلاج المعرفي السلوكي، فذلك مما ينتفع به، وإن وجدت ظروف اجتماعية ضاغطة، أو خلل في نمط السلوك، وجب التعامل معها بجدية، كما أن الرقية الشرعية، والمداومة على الأذكار، واللجوء إلى الله –عز وجل– تبقى من الوسائل العلاجية المشروعة، التي لا ينبغي أن تهمل أو تغفل؛ وهذه كلها يجب أن تؤخذ كأدوات علاجية صحيحة.
هذا فيما أعتقد هو الفهم المتوازن والمنهج السديد؛ فنحن كمسلمين نؤمن بأن الإنسان مكرم في شرع الله، محفوظ بعناية ربه، وأنه مهما وجد من تأثيرات روحية كالسحر أو المس ونحوها، فإن الله تعالى خير حافظا، وهو أرحم الراحمين، وإن وجد سحر أو غيره من كيد المفسدين، فإن الله سبحانه سيبطله، كما قال تعالى: {إن الله لا يصلح عمل المفسدين}.
وهذا هو الاعتقاد الذي ينبغي أن نرسخه في أنفسنا، فلا يجوز أن نفتح الباب للمشعوذين والدجالين الذين استغلوا معاناة الناس، وتسللوا من هذا المدخل، فأفسدوا على الناس دينهم وصحتهم، وملؤوا قلوبهم بالأوهام، وروجوا لمفاهيم لا أصل لها.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرا.