السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا طالبة في الصف الثالث الثانوي، ولم يتبق سوى أيام قليلة على بدء الامتحانات، مررت هذا العام بظروف نفسية صعبة أثرت على دراستي؛ فقد بدأت السنة بفقدان شخص عزيز جدا؛ مما أدخلني في حالة نفسية استمرت أربعة أشهر، كنت خلالها مشتتة الذهن وغير قادرة على التركيز في المذاكرة رغم محاولاتي.
وبعد أن بدأت أتعافى، فقدت شخصا آخر غاليا علي، وكان قد أصيب بمرض مفاجئ، ولم نتوقع وفاته لصغر سنه، أحببته كثيرا، وكان لهذا الفقد أثرا كبيرا في نفسي، لكنه لم يمنعني من محاولة العودة إلى الدراسة من جديد.
الآن أبذل جهدي بقدر ما أستطيع، لكنني أشعر بالخوف من ألا أحقق المجموع الذي أحلم به، خاصة عندما أرى زميلاتي وقد التزمن بالدراسة من بداية العام، ولم يمررن بما مررت به.
أحيانا أقول: إن الله عدل، وربما قدر علي هذه الابتلاءات ليعوضني عنها، وأحيانا أخرى أقول: ربما قصرت ولم أركز بما فيه الكفاية، وأيضا يتبقى أثر أني لو منحت (مجموعا) سيموت أحد من أهلي، فلماذا لا يبدل الله هذا الشر ويجعله خيرا في الشيء الذي نتمناه؟ فهو القادر على أن يجعل ما نرجوه خيرا لنا بدل أن يحرمنا منه.
كل ما أتمناه الآن أن يدخل الله فرحة عظيمة إلى بيوتنا، بعد سنوات من الحزن والفقد، وذلك بمجموع كبير يملأ قلوبنا سعادة وأملا، أرجو منكم الدعاء لي بالتوفيق والنجاح، والمجموع العالي.
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ جنى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ابنتي العزيزة، أولا وقبل كل شيء: أسأل الله أن يرزقك السكينة والطمأنينة، وأن يوفقك في دراستك، ويحقق لك ما تطمحين إليه من الخير في الدنيا والآخرة.
لقد لمست في كلماتك صدق إحساسك، وعمق معاناتك، وأود أن أؤكد لك أن مشاعرك طبيعية جدا بالنظر إلى ما مررت به من فقد وألم.
أولا: الحزن على فقد الأحبة أمر فطري وطبيعي، بل هو جزء من إنسانيتنا، الفقد الذي عايشته مرتين في وقت قصير يترك أثرا عميقا في النفس، وليس من السهل تجاوزه سريعا، من الطبيعي أن يرافقك الشعور بالحزن أو الذكريات المؤلمة، وأن يؤثر ذلك على تركيزك، أو حتى طاقتك العامة، ومع ذلك، فإن وجود هذه المشاعر لا يعني أنك ضعيفة أو عاجزة، بل يعكس محبتك العميقة لهؤلاء الأحبة، ووفاءك لهم.
الحزن بحد ذاته ليس عيبا، وقد حزن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند فقد أحبته، فقال عند وفاة ابنه إبراهيم: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
هذا الحديث الشريف يعلمنا أن الحزن شعور طبيعي، لكن المهم ألا يدفعنا إلى الاعتراض على قضاء الله وقدره، وألا يقف حاجزا أمام سعينا في الحياة.
ثانيا: ابنتي الغالية، لقد سألت سؤالا عظيما: لماذا لا يبدل الله الشر بخير في الشيء الذي نتمناه؟ وفي هذا السؤال يعكس قلبك إيمانا عميقا بقدرة الله وعدله، والجواب يكمن في قوله تعالى: "وعسىٰ أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسىٰ أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ۗ وٱلله يعلم وأنتم لا تعلمون" (البقرة: 216).
أحيانا: قد نعتقد أن الخير يكمن في تحقيق ما نريده نحن، لكن الله بحكمته يعلم ما هو أصلح وأفضل لنا في الدنيا والآخرة، إن المصاعب التي مررت بها قد تكون اختبارا لرفع درجتك عند الله، أو لتقوية شخصيتك، أو لحكمة لا يعلمها إلا الله، وربما يكون وراءها خير عظيم ستدركينه لاحقا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" (رواه مسلم).
ثالثا: أنت الآن في وقت حساس مع اقتراب الامتحانات، وقد وصفت نفسك بأنك تبذلين جهدك بقدر ما تستطيعين، وهذا بحد ذاته شيء عظيم، اجتهدي بما تستطيعين، مع إدراك أن الجهد والبذل هو مسؤوليتك، أما النتائج فهي بيد الله، ودائما ما تكون بما فيه خيرك، قال الله تعالى: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" (البقرة: 286).
لكن، أذكرك أن السعي يحتاج إلى تخطيط وتنظيم، خصصي وقتا لكل مادة دراسية، وحاولي تقسيم أهدافك إلى أجزاء صغيرة قابلة للتحقيق، إذا شعرت بالإرهاق، خذي استراحة قصيرة، وعودي للعمل بنشاط، ولا تنسي أن الدعاء والاستغفار من أعظم الأسباب التي تفتح لنا أبواب التوفيق.
رابعا: ما ذكرته عن خوفك من أن يكون نجاحك مرتبطا بفقد جديد في حياتك هو نوع من الوساوس التي قد يجلبها الشيطان ليضعف عزيمتك أو يشغلك عن السعي، تذكري دائما أن الله عز وجل رحمن رحيم، وأنه لا يربط الخير بالمصائب، بل هو أكرم الأكرمين، قال تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم" (النساء: 147).
إذا راودتك هذه الأفكار، استعيني بالله، واطرديها فورا بذكر الله، مثل: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، و"لا حول ولا قوة إلا بالله".
خامسا: ابنتي الغالية، اجعلي هدفك الأساسي هو رضا الله عنك، وليس فقط تحصيل الدرجات، فحين تكون النية خالصة لله، يبارك الله في عملك، ويكتب لك الخير في النتائج، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (رواه البخاري ومسلم).
أنت تسعين لإدخال الفرحة إلى قلوب أهلك بعد سنوات من الحزن، وهذه نية عظيمة، لكن تذكري أن الفرح الحقيقي هو رضا الله، والنجاح الحقيقي هو أن تكوني قريبة من الله في كل حال.
سادسا: نصائح عملية نرجو أن تستفيدي منها:
1. خصصي وقتا يوميا لقراءة القرآن الكريم ولو قليلا، ففيه شفاء للقلوب وطمأنينة للنفس، قال تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد: 28).
2. أكثري من الدعاء، خاصة في السجود، وأوقات الإجابة، قولي: "اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا".
3. قومي ببعض التمارين البسيطة مثل: المشي، أو التنفس العميق؛ فهي تساعد على تقليل التوتر وتحسين التركيز.
4. لا تقارني نفسك بزميلاتك، فكل إنسان له ظروفه الخاصة، ركزي على نفسك وطاقتك وما يمكنك تحقيقه.
5. إذا شعرت بثقل نفسي لا تستطيعين تجاوزه، فلا تترددي في طلب الدعم من مرشدة نفسية، أو شخص تثقين به، التحدث عن مشاعرك يساعد كثيرا على تخفيف العبء الداخلي.
ختاما: ابنتي العزيزة، تذكري دائما أن الابتلاءات ليست دليلا على غضب الله، بل يمكن أن تكون دليلا على محبته، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" (رواه الترمذي).
فرج الله قريب، ورحمته واسعة، كل ما تمرين به الآن سيصبح يوما جزءا من ذكرياتك، وسيمنحك قوة وحكمة في المستقبل، استمري في السعي، واملئي قلبك بالأمل، وثقي أن الله قريب منك يسمع دعاءك ويرى صبرك.
أسأل الله أن يرزقك التوفيق والنجاح الباهر، وأن يفرح قلبك وقلب أسرتك بما يسعدكم في الدنيا والآخرة.