السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أريد منك شيخي الكريم أن تقرأ رسالتي، وتفسر كل كلمة وتحللها من جميع النواحي، وإليك الرسالة:
أنا شخص نشأت في أسرة محافظة، كان والدي -رحمه الله- مدير مدرسة، ووالدتي أمية، لا تقرأ ولا تكتب، لكنها امرأة ملتزمة، وكان والداي يحبانني كثيرا ويخافان علي، وأنا وحيد أبي من الذكور، ولي أربع أخوات، وأنا الرابع من بينهن.
درست حتى الصف الثالث الثانوي، وتخرجت منه، وكنت أدرس مع ابن عمي الذي كان في سني، فكنا كالأخوين، لا فرق بيننا، وقد نشأنا معا على الالتزام والأخلاق، منذ صغري وأنا محافظ على الصلاة وأصلي في البيت، ومؤدب ومحترم، ولم أكن مختلطا مع الآخرين كثيرا في التجمعات والمناسبات، وكانت أول صلاة لي في المسجد مع والدي -رحمه الله- صلاة المغرب، ومنذ ذلك اليوم أصبحت أحرص على الصلاة في المسجد.
التحقت منذ طفولتي بالدورات القرآنية في الإجازة الصيفية، وبدأت حفظ القرآن، وكنت متفوقا في دراستي، دائما ما أحتل المركز الأول خلال سنوات الدراسة حتى تخرجت من الثانوية، أذكر أنني حين وصلت إلى الصف الرابع أو الخامس الابتدائي، كنت قد حفظت ثلاثة أجزاء من القرآن، ثم بدأت أحفظ بنفسي بعد ذلك، وكنت مهتما بالمطالعة، خصوصا في الكتب الدينية، والخطب، والمواعظ.
وفي أثناء هذه الحياة، وفي الصف السادس تقريبا، بدأت أصاب بوسواس في صدري، يتعلق بذات الله، وأيضا بالطهارة، ولم أستطع الخلاص من هذا الوسواس، حتى مع قراءتي للأحاديث النبوية التي تطمئن، مثل حديث: "ذاك صريح الإيمان"، حين جاء الصحابة يشكون للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما يجدونه في صدورهم، ومع ذلك، لم يتركني الوسواس، وبقي ملازما لي حتى وصلت إلى المرحلة الثانوية، مما أدخلني في هم وضيق شديدين.
لدرجة أنني أصبحت أجلس في الحمام أكثر من 10 دقائق؛ بسبب الوساوس، ومع ذلك كنت محافظا على الصلاة وقراءة القرآن، وقد وفقني الله لحفظ عشرة أجزاء من المصحف.
وعندما انتقلت من قريتي إلى المدينة لدراسة الصف الثالث الثانوي أنا وابن عمي، تعرفت على شخص كان جارا لنا سابقا في القرية، وأصبحنا أصدقاء مقربين، حتى تعلقت به بشدة، وكنت أتواصل معه يوميا، رغم أنه كان قد انتقل إلى مدينة أخرى.
في تلك الفترة، بدأت أعاني من وسواس جديد يتعلق بهذا الصديق، لا أعرف طبيعته بالضبط، لكنه جاء نتيجة التعلق الشديد به، وأصبح هذا الوسواس مضاعفا فوق الوسواس الأول المتعلق بالعقيدة والطهارة.
وبعد أن أنهيت دراسة الصف الثالث الثانوي، كان النظام حينها يفرض سنة توقف عن الدراسة تعد بمثابة سنة خدمة، قبل الالتحاق بالجامعة، وكنت طموحا وأسعى لدراسة طب الأسنان في الجامعة، وخلال هذه السنة، التحقت بدورات في اللغة الإنجليزية، ومكثت فيها ما يقارب عاما كاملا أنا وابن عمي.
كنت متعلقا جدا باللغة الإنجليزية وشغوفا بتعلمها، وكنت أيضا متدينا زيادة، حريصا على الطاعات، وأكملت حفظ نصف القرآن الكريم.
تقدمت بعدها لاختبارات القبول في الجامعة في تخصص طب الأسنان، ولكن لم أوفق في القبول، فقررت التسجيل في جامعة خاصة، لكن الظروف الأمنية والسياسية تغيرت، واندلعت الحرب.
أمرني والدي -رحمه الله- أن أتوقف مؤقتا عن الدراسة حتى تهدأ الأوضاع، فلم أخالف أمره، وقلت له: ما تأخر فيه الخير.
وكان ذلك في الفترة بين عامي 2013 - 2014، ورجعت إلى البيت، وبقيت دون دراسة أو عمل، فكنت أشغل وقتي بمراجعة دروس الإنجليزية، وقراءة الكتب، واللعب مع أصدقائي كرة القدم.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك في إسلام ويب، ونسأل الله أن يجبر خاطرك، ويشرح صدرك، ويكتب لك من الفرج أضعاف ما لقيت من ضيق.
لقد أرسلت سيرة صادقة، تنطق بالخير منذ فجر طفولتك، وتعبر عن روح مؤمنة، نشأت في بيت قائم على البر، وبين والدين أحدهما أمي في علم الدنيا، لكنه عليم بحكمة القلوب، والآخر صاحب علم وتربية، فأورثاك هذا التوازن العجيب، بين الحياء والطموح، وبين الورع والرغبة في التعلم.
دعني أقسم رسالتك وأفسرها على مراحل نفسية، ودينية، وسلوكية، لتتبين لك معالم ما مررت به:
أولا: النشأة والبيئة الأسرية:
نصك: أنا شخص نشأت في أسرة محافظة، كان والدي -رحمه الله- مدير مدرسة، ووالدتي أمية، لا تقرأ ولا تكتب، لكنها امرأة ملتزمة، وكان والداي يحبانني كثيرا ويخافان علي، وأنا وحيد أبي من الذكور، ولي أربع أخوات، وأنا الرابع من بينهن.
التحليل: بيئة حاضنة للالتزام، وفيها صورة قوية للأب المتعلم الصارم الحاني، والأم البسيطة المتدينة.
غياب الذكور خلق عندك شعورا بالفرادة، وربما المسؤولية والضغط أيضا، خصوصا مع وصفك لكونك الوحيد؛ وهذا غالبا ما ينمي الشعور بالحمل الزائد، والرقابة الداخلية.
حب الأبوين لك كان كبيرا، لكنه كان مفعما بالحرص والخوف، لا بالتشجيع والاحتواء العاطفي، وقد يظهر هذا لاحقا في حساسيتك الزائدة، وتأثرك العميق بالرفض أو الفشل.
ثانيا: الالتزام المبكر والوسواس.
كان نصك: كنت ملتزما منذ صغري، وأحفظ من القرآن، ومحافظا على الصلاة، وبدأ الوسواس في ذات الله والطهارة منذ الصف السادس تقريبا.
التحليل: الالتزام المبكر نعمة عظيمة، لكنه حين لا يرفق بتوجيه نفسي صحيح، قد يورث ما يسمى بالوسواس القهري الديني، والوسواس في العقيدة ثم الطهارة شائع في هذه المرحلة، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا بوضوح، فقال: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله ولينته" [رواه البخاري].
شعورك بالخوف من الوساوس مع المحافظة على العبادة يدل على سلامة الإيمان، كما في حديث: "ذاك صريح الإيمان" [رواه مسلم]، أي: أن الخوف من تلك الخواطر علامة إيمان لا كفر.
ثالثا: الانتقال والتعلق بالشخصية القريبة
نصك: عندما انتقلت إلى المدينة، تعلقت بشخص من قريتنا، وكنت أتصل به يوميا، وبدأ وسواس جديد بخصوص هذا الشخص.
التحليل: أنت شخصية حساسة وعاطفية ومستقرة داخليا، لذا حين فقدت البيئة الأسرية المستقرة، وجدت في هذا الصديق البديل العاطفي، وتعلقك به ليس خاطئا، لكنه تحول إلى ما يسمى بـالتعلق الزائد، خاصة أنك وصفته بأنه فوق الحب الطبيعي.
الوسواس هنا انتقل من الطهارة إلى الخوف من هذا التعلق نفسه، وهذا شائع جدا، ويحتاج إلى فصل الشعور النبيل عن الشعور المرضي، دون أن تشك في نيتك أو توبتك.
رابعا: الطموح الدراسي وخيبة التوقعات
نصك: كنت أريد دراسة طب الأسنان، لكن لم أوفق، ثم بدأت الحرب، ورضيت بأمر والدي وجلست في البيت.
التحليل: كانت هذه صدمة داخلية عميقة، لأنك لم تفشل بسبب ضعفك، بل بسبب ظروف خارجة عن إرادتك، وكثير من أهل الطموح حين يحبطون في خطوة كبيرة، مثل: فشل القبول في الجامعة، تنتكس عندهم النفسية، ويبدأ جلد الذات أو الخمول، خاصة إذا لم يكن هناك دعم نفسي أو بدائل واضحة.
قولك: رضيت بقول أبي، يدل على بر صادق، لكن ربما يخفي كبتا لرغبتك التي لم تجد لها مخرجا بعد.
خامسا: الفراغ بعد الانقطاع عن الدراسة.
ذكرت: في هذه السنة كنت ألعب كرة القدم، وأطالع الكتب، ولا أعمل.
التحليل: الفراغ هو مستنقع الشيطان كما قال السلف، وهو ما فتح باب الوساوس والتأملات الزائدة.
طموحك كان كبيرا، لكن مساراتك انقطعت بسبب الظروف، وهذا يؤثر على من لديهم حس ديني وعاطفي قوي؛ لأنهم يميلون إلى التفكير العميق واللوم الذاتي.
توصيات عملية لك:
- الوسواس القهري يمكن علاجه دوائيا وسلوكيا، ولا يتعارض هذا مع الدين، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء" [رواه البخاري].
- تعلقك العاطفي ليس خطيئة، لكنه يحتاج لإدارة نفسية، عبر توسيع شبكة العلاقات، وربط نفسك بمشاريع، لا بأشخاص فقط.
- ابدأ التخطيط للعودة الأكاديمية أو المهنية، ولو بمشروع صغير، أو دراسة إلكترونية، فالركود هو الوقود الأكبر للوسواس.
- اجعل لك وردا ثابتا من القرآن، والرياضة، والخروج اليومي، ولا تترك يومك بلا حركة.
- استعن برفقة صالحة ترشدك بلطف، وتعينك على الانطلاقة الجديدة.
وفي الختام: أسأل الله أن يجعل صدرك رحبا بعد الضيق، وأن يفتح لك أبوابا من الخير والسكينة، وأن ترى قريبا بعينك ما وعدك الله به في كتابه: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا}، وأن ينزل على قلبك بردا وسلاما كما أنزلها على إبراهيم -عليه السلام-، ويجعل عاقبة أمرك إلى رشد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.