السؤال
السلام عليكم.
أود الاستفسار عن شيء، وهو أنني أجد صعوبة في تصديق أن الناس يعيشون حياتهم باستمتاع بدون وسائل التواصل الاجتماعي، والأفلام والمسلسلات؛ ففي كل فترة عندما أقطع نفسي عن مشاهدة الأفلام وغيرها، أجد أنه ليس لدي نشاطات غيرها، وأشعر أنني لا أستغل شبابي، وأشعر أنني إنسانة مملة، ودائما تخطر لي فكرة أن الذي تتمحور حياته فقط في النشاطات الدينية أنه إنسان ممل، ولا يعيش حياته باستمتاع، رغم أنني التزمت فترة، وشعرت براحة لا توصف، ولكن أجد أن الفكرة لا تغادر عقلي، لا أعلم لماذا؟ أجد أن الناس الذين لا يمتلكون حسابات تواصل اجتماعي أنهم متشددون، وأنهم لا يستغلون شبابهم.
أنا أعلم أنها فكرة خاطئة، وأتمنى أن تفيدوني بإجابة صادقة ومفيدة.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ كريمة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أشكرك على طرح هذا السؤال العميق الذي يعكس تفكيرا ناضجا، ورغبة صادقة في فهم ذاتك، وتحقيق التوازن بين روحك، وواقع حياتك؛ فسؤالك يحمل في طياته مشاعر مختلطة من الحيرة والرغبة في التغيير، وأقدر شجاعتك في التعبير عن هذه الأفكار، التي قد تكون شائعة لدى الكثيرين في عصرنا الحالي.
أود أن أبدأ بالاعتراف بمشاعرك واحترامها؛ فمن الطبيعي أن تشعري أحيانا بأنك حائرة بين عالم يملؤه الانغماس في وسائل الترفيه، ومنصات التواصل الاجتماعي، وبين عالم آخر يبدو أكثر هدوءا وروحانية، ولكنه قد يثير لديك مخاوف من الملل، أو عدم "استغلال الشباب"، كما يصور في المجتمع الحديث، وهذه الحيرة هي انعكاس لحالة نفسية عامة نعيشها اليوم، نتيجة تسارع الحياة، وتداخل القيم المادية مع القيم الروحية.
أولا: ما ذكرته يعكس تحديا نفسيا شائعا يعرف بـ "الخوف من تفويت الفرصة" (Fear of Missing Out – FOMO)، وهو شعور بالخوف من أن الآخرين يعيشون حياة أكثر إثارة أو استمتاعا منك، ووسائل التواصل الاجتماعي تعزز هذا الشعور، عندما تظهر لنا لحظات مثالية ومختارة من حياة الآخرين، مما يجعلنا نعتقد أن حياتنا أقل إثارة، أو أقل قيمة، ولكن الحقيقة أن ما نراه على هذه الوسائل ليس الواقع الكامل، بل هو صورة منتقاة ومزخرفة.
أيضا، يمكن أن يكون لديك قلق داخلي يتعلق بمفهوم "الاستمتاع"، وكيف يفترض أن تقضى فترة الشباب، والمجتمع الحديث غالبا ما يربط الاستمتاع بالترفيه المادي، مثل: مشاهدة الأفلام والمسلسلات، أو قضاء الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، في حين أن المتعة الحقيقية أعمق من ذلك بكثير، ولا يعني ذلك أن هذه الوسائل سيئة في حد ذاتها، ولكن المشكلة تكمن في الاعتماد عليها كوسيلة وحيدة للترفيه، أو الشعور بالامتلاء النفسي، نعم، الترفيه مهم، ولكن إذا أصبح هو المحور الأساسي لحياتنا، فقد نفقد التوازن، ونشعر بالفراغ.
ثانيا: من المهم أن نعيد تعريف مفهوم الملل والاستمتاع في حياتنا؛ فالملل ليس بالضرورة شعورا سلبيا، بل يمكن أن يكون فرصة للتأمل، وإعادة ترتيب الأولويات، واكتشاف ما نحب حقا، قد تشعرين بالملل عندما تبتعدين عن وسائل الترفيه السريعة؛ لأنها كانت تملأ وقتك بشكل سريع، ولكن بشكل سطحي، وعندما تتوقفين عنها، ويظهر الفراغ، قد يكون في البداية صعبا، ولكنه في الحقيقة فرصة ذهبية لتطوير اهتمامات جديدة وأعمق.
في الإسلام، الحياة المتوازنة ليست خالية من المتعة، لكنها متعة ذات معنى وقيمة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا" (رواه البخاري)، وزورك: يعني ضيفك، أو من يزورك، وهذا الحديث يشير إلى أهمية التوازن بين مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك الترفيه والراحة.
ثالثا: ديننا لا يدعو إلى إهمال الحياة الدنيوية، أو اعتبار الشخص الملتزم إنسانا مملا، بل على العكس، فالإسلام يشجع على الاستمتاع بالحياة في إطار من التوازن والاعتدال، قال الله تعالى:"قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (الأعراف: 32)، وهذه الآية تؤكد أن الله خلق الزينة والطيبات ليستمتع بها عباده ضمن حدود شرعه، ولنا في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته قدوة عظيمة؛ فقد كانوا أشخاصا ملتزمين بالأمور الدينية، لكنهم في الوقت ذاته مارسوا حياتهم الاجتماعية، وضحكوا، ولعبوا، وشاركوا في أمور الدنيا بجدية وروح مرحة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "روحوا عن القلوب ساعة وساعة" (رواه الطبراني)، وهذا الحديث يدل على أن الترويح عن النفس ليس فقط مسموحا به، بل هو جزء من المنهج النبوي؛ للحفاظ على الصحة النفسية والعقلية.
رابعا: خطوات عملية للتوازن الشخصي:
- حاولي استغلال الوقت الذي كنت تقضينه في مشاهدة الأفلام، أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي لتجربة أنشطة جديدة؛ فقد تجدين شغفا في القراءة، أو الكتابة، أو الرسم، أو تعلم لغة جديدة، أو ممارسة الرياضة؛ فهذه الأنشطة تمنحك شعورا بالإنجاز والمتعة العميقة، التي تختلف عن المتعة السريعة والمؤقتة.
- قضاء الوقت في الطبيعة يعيد للإنسان اتصالا فطريا مع خلق الله، ويمنحه شعورا بالاطمئنان، والمشي في الحدائق، والتأمل في السماء، أو حتى الزراعة في المنزل، يمكن أن يكون لها أثر إيجابي.
- حاولي الانخراط في أنشطة اجتماعية بناءة، مثل: العمل التطوعي، وحضور دروس العلم، أو حلقات الذكر، أو حتى تنظيم لقاءات عائلية؛ فهذه الأنشطة تمنحك شعورا بالارتباط بالآخرين وبالمجتمع.
- ليس هناك تعارض بين ممارسة العبادات والاستمتاع بالحياة، ويمكنك الجمع بينهما من خلال نواياك الصالحة، وعلى سبيل المثال: إذا مارست رياضة من أجل الحفاظ على صحتك، فاجعلي نيتك أن تكوني قوية لخدمة دينك ومجتمعك.
- قضاء الوقت في قراءة وتدبر القرآن والسنة، ليس مجرد نشاط ديني، بل هو مصدر للراحة النفسية والطمأنينة، قال الله تعالى: "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ۗ ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد: 28).
- بدلا من الانقطاع المفاجئ عنها، حاولي تقليل الوقت الذي تقضينه عليها بشكل تدريجي، وخصصي وقتا محددا لها، ثم استبدليه بأنشطة أخرى، قال الشافعي -رحمه الله-: "نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل"، هذه المقولة تذكرنا بأهمية توجيه طاقاتنا نحو ما ينفعنا، ومما ينسب للإمام علي -رضي الله عنه- أنه قال:
دواؤك فيك وما تبصر ** وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الأكبر
فأنت الكتاب المبين الذي** بأحرفه يظهر المضمر
وما حاجة لك من خارج** وفكرك فيك وما تصدر
أخيرا -أختي الكريمة-: لا تحكمي على نفسك، أو على غيرك، بناء على معايير سطحية يفرضها المجتمع الحديث؛ فلكل إنسان رحلته الخاصة، وما يبدو ممتعا لغيرك قد لا يكون كذلك لك، واسألي نفسك: ما الذي يشعرني بالطمأنينة؟ ما الذي يقربني من الله ويجعلني أشعر بالرضا عن نفسي؟
أسأل الله أن ييسر أمرك، ويشرح صدرك، ويوفقك لما فيه الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.