رغم شدة الابتلاء: أريد أن أصل إلى الرضا التام عن ربي، فأرشدوني.

0 0

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أنا فتاة أبلغ من العمر ٣٥ عاما، غير متزوجة، ولدي عملي الخاص، ورغم أن دخله قليل، إلا إنه يكفيني بصعوبة، وأعيش مع أبي وأمي، ولي إخوة متزوجون، ولكل منهم أسرته الجميلة.

ما يتعب نفسيتي منذ سنوات، ويمنعني من الراحة، وأدخلني في دوامة من الهم، هو أن جميع صديقاتي تزوجن وأنجبن، وكذلك إخوتي تزوجوا وأنجبوا، وأنا رغم سعادتي لأجلهم أجاهد نفسي لأرضى بواقعي، لكن في كل مرة أحاول فيها أن أرضى، أشعر بشيء يخنقني، وكأنني أرفض الاستسلام لوضعي.

أعاني من هذه الحالة منذ أن بلغت الخامسة والعشرين، بعض صديقاتي قاطعنني تماما، ومنهن من تسخر مني، لا ينقصني شيء -ولله الحمد- وأعلم أن ما أمر به ابتلاء، وأحيانا أقول في نفسي: ربما هو عقاب من الله.

أنا مختنقة وحزينة، وما يزيد حزني هو عجزي عن الوصول إلى الرضا، أريد أن أرضى عن الله، أحاول بكل جهدي أن أكون راضية صابرة، لكني في كل مرة ألتقي فيها بأحد الأقارب أو الجيران، أجد نفسي أخفي وجهي، وكأنني ارتكبت جريمة، بسبب نظراتهم واحتقارهم.

في نظرهم، أنا "عانس" لا يرغب بي أحد! لكنني -والله يعلم- لم أفعل شيئا سوى أنني حفظت نفسي من الخطأ، منتظرة صاحب النصيب، رغم أنني قد يئست من قدومه.

أرجوكم، أخبروني: هل ربي غاضب علي لأنني لا أستطيع أن أرضى؟ أنا فقط أريد أن أرضى، أريد أجر الصابرين المحتسبين، لم أعد أهتم لا بالزواج ولا بالأمومة، كل ما أتمناه أن أكون صابرة محتسبة، لكن نفسي تأبى ذلك، وتمنعني منه.

أتمنى دعوة صادقة من كل من يقرأ قصتي؛ ادعوا لي أن يرزقني الله الرضا، وأن أكون من الصابرين المحتسبين، حتى ألقى ربي وهو راض عني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ Ahlam حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك -ابنتنا الفاضلة- في الموقع، ونشكر لك اهتمامك، وحسن عرضك للسؤال، ونبشرك بأنك على خير، وفي خير، وعلى طريق الخير بإذن الله.

واعلمي أن نعم الله مقسمة، من أولها إلى آخرها: بمالها، وجمالها، وقصورها؛ فما رضيها الله تعالى ثوابا لأوليائه، ولا جعلها عقابا لأعدائه، فقد يعطيها للكع ابن لكع، ويحرم منها إنسان تقي، أو إنسانة تقية.

وقد قال ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا ‌لكع ‌ابن ‌لكع، وقال ﷺ: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها ‌شربة ‌ماء، وقال ﷺ: إن الله تعالى ‌قسم ‌بينكم أخلاقكم، كما ‌قسم ‌بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي المال من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب.

لذلك، فهذه النعم الدنيوية ليست دليل رضا الله، ولا حرمانها دليل سخطه، بل الابتلاء يشدد على أهل الإيمان؛ فقد قال ﷺ: أشد الناس بلاء: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وكلما كان في دين العبد قوة، زيد له في البلاء. فاحمدي الله -تبارك وتعالى- على ما أنت فيه، واذكري أن نعم الله مقسمة: فربما تزوجت زميلات لك، ولكن لم يكتب لهن السعادة، أو عانين من الفقر، أو ضيق ذات اليد، أما أنت، فلك عمل، ورزق، وستر، وربما غيرك لا يملكن ذلك.

النعم لا تتشابه، والله تعالى يوزعها بحكمة؛ فواحدة ترزق زوجا وأبناء، لكنها محرومة من المال أو الصحة، وأخرى ترزق عملا وراحة، وتحرم من شيء آخر، وهكذا. فالدنيا لا تقاس بالمظاهر، ولا ينظر إليها بظاهرها، ولهذا جاء توجيه النبي ﷺ: انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم. نحن نؤمر بالنظر إلى من هم فوقنا في الدين لنقتدي بهم، ونسابقهم في الطاعة، أما في أمور الدنيا، فنؤمر بالنظر إلى من هم دوننا، كي ندرك نعم الله علينا، فلا نزدريها ولا نهمل شكرها.

واعلمي أن ما تجدينه من مشاعر ضيق، وعدم رضا، هو من الشيطان؛ إذ هم الشيطان أن يحزن أهل الإيمان، كما قال تعالى: ﴿إنما النجوىٰ من الشيطان ليحزن الذين آمنوا﴾. وتذكري أن السعادة الحقة هي في موافقة ما قدره الله، كما قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "كنا نرى سعادتنا في مواطن الأقدار"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لو كشف الحجاب، ما تمنى أصحاب البلاء إلا ما قدر لهم".

فليس كل زواج سعادة، ولا كل مال نعمة، فقد تتزوج المرأة، لكنها تعيش في أذى، أو تبتلى بزوج لا يعرف حقا، أو أولاد يعقونها، ورب غني يصاب بأمراض شديدة تذهب ماله ونفسه، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وعسىٰ أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم﴾، وفي المقابل: ﴿وعسىٰ أن تحبوا شيئا وهو شر لكم﴾.

هذه النظرة الإيمانية، هي التي تعين المؤمن على الرضا والثبات، فما عليك إلا أن تواصلي طاعتك لله، وأن تبرزي خصالك الطيبة، وأن تتواجدي في البيئات الصالحة: كمراكز تحفيظ القرآن، والمجالس الإيمانية، ومحافل الخير، فهناك كثير من الأمهات يبحثن عن زوجات صالحات لأبنائهن، ويخترن مثيلاتك من صاحبات الدين والخلق.

ولا تيأسي، فلكل أجل كتاب، والرضا لا يكون في تحقيق المطلوب فحسب، بل في الثقة أن الله لا يختار لعبده إلا خيرا، وإن خفي وجه الخير أحيانا. وقد يؤخر الله تعالى الإجابة لحكمة بالغة، وقد يمنعها رحمة بعبده، كما أشار ابن الجوزي -رحمه الله- إلى حال بعض الناس مع الدعاء، فقال: "وهناك من يسألون فلا يجابون، وهم بالمنع راضون" إلى أن قال: "فإن انبسط أحدهم بسؤال، فلم ير الإجابة، عاد على نفسه بالتوبيخ، فقال: مثلك لا يجاب! وربما قال: ‌لعل ‌المصلحة في منعي".

وهذه المرتبة من الرضا والخضوع لا يبلغها إلا من امتلأ قلبه يقينا بحكمة الله ولطفه، ورضي بما قسمه سبحانه، سواء أعطي أو منع.

ثم وصف ابن الجوزي حال من لا يرضى بقضاء الله، فقال: "والأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب؛ فإن لم يجب، تذمر في باطنه، كأنه يطلب أجرة عمله، وكأنه قد نفع الخالق بعبادته!". وفي هذا التصوير يكشف ابن الجوزي عن سوء أدب البعض في مقام الدعاء، إذ يجعلون أنفسهم أصحاب استحقاق، غافلين عن أن العبودية تقتضي التذلل والتسليم، لا المطالبة والاعتراض.

ثم تحدث عن الذين يرضون بقضاء الله وقدره فقال: "وإنما العبد حقا من يرضى ما يفعله الخالق، فإن سأل فأجيب رأى ذلك فضلا، وإن منع رأى تصرف مالك في مملوك، فلم يجري في قلبه اعتراض بحال". وهذا الوصف يبين حقيقة الإيمان الحقيقي، الذي يقبل قضاء الله برضا وسكينة، لا بالاستحقاق أو الاعتراض.

وللدعاء ثلاث حالات -كما أخبر النبي ﷺ-:
1. إما أن يعطيك الله ما سألت.
2. أو يصرف عنك من السوء مثله.
3. أو يدخر لك من الأجر والثواب ما هو أعظم.

فكل من توجه إلى الله فهو رابح، والله تعالى يقول: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه﴾، ويقول: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب﴾، ويقول: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾.

نسأل الله أن يعينك على الخير، وأن يقدر لك الخير، ثم يرضيك به، وأن يجعل لك في كل أمر مخرجا، وفي كل ضيق فرجا، وفي كل دعاء أجرا واستجابة ورضا.

وبالله التوفيق.

مواد ذات صلة

الاستشارات