السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أعاني ما تعانيه كثير من الفتيات في مجتمعاتنا من التمييز بين الذكور والإناث، وسئمت الحلول الشفهية، ولا أجد من ألجأ إليه.
أمي تظلمنا في كل شيء؛ وتعتدي علينا بالسب، والشتم، والضرب، بل لا تنفق علينا، وقصرت في تربيتنا كفتيات، كما قصرت في تعليمنا ديننا، وهي تعوق مستقبلنا.
بلغت من العمر سبعة وعشرين عاما، ومع ذلك لم يطرق بابنا أحد، وتخرجت من الجامعة، واضطررت إلى العمل لأنفق على نفسي، كما كانت تقول لي ولأخواتي، ثم تجاوز الأمر ذلك، فأصبحت تطلب منا الإنفاق على البيت أيضا، وأنا أقسم بالله لو كان في قدرتي لفعلت دون تردد.
لجأت إلى الدعاء مرارا وتكرارا، فلم يطرأ على حالي أي تغيير، ثم ألجأت نفسي إلى حفظ القرآن الكريم، وما زال الحال على ما هو عليه، ورغم ذلك أحمد الله وأشكره أنني قطعت فيه شوطا كبيرا، لكنني لم أسمع منها يوما كلمة تشجيع أو مدح، ولو كان أحد إخوتي الذكور هو من قام بذلك، لقدمت له كل أشكال الثناء والتكريم.
بدأ يقيني بالله عز وجل يتزعزع، وأفقدتني الأيام القدرة على الدعاء، وتعبت وانهارت قواي، وكل ما أرجوه هو الخلاص لي ولأخواتي بحياة كريمة جديدة، نعيشها مع من يقدرنا ويعوضنا ما فقدناه بوفاة والدنا وقسوة والدتنا.
أشعر بالألم مع مرور الأعوام وذهاب العمر، وأنا على حال واحد، لا يتغير، سئمت الشكوى والكلام، والله لو عرض علي الموت، ما حزنت، ولا تمسكت بهذه الحياة، بعد ما رأيت من ظلم.
لماذا إذا كان الحديث عن "عقوق الوالدين" تتهافت الحلول وتعلو الأصوات؟ ومع ذلك، حين تتحدث 90% أو أكثر من فتيات مجتمعاتنا الإسلامية عن الظلم والقهر والمهانة -التي قد تودي بإحدانا إلى دروب الهلاك أو الضلال- لا نجد من يجيب؟
هل يعقل أن رسول الله ﷺ، لو كان بيننا اليوم، يصمت عن هذا؟ وهل يطول صمته وهو الذي قال: "واستوصوا بالنساء خيرا"، ولا يوصي إلا بما فيه الخير العظيم؟
لله الأمر من قبل ومن بعد، فما كتبت مما سطرت من سطور إلا بعدما بلغ الأمر مبلغا، وضاقت بي السبل، فأرجو منكم العون والمساعدة، فأنتم -بعد الله تعالى- أولياء أمر المسلمين.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ غصون حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -ابنتنا الكريمة- في الموقع، نشكرك على الاهتمام والحرص على السؤال، ونسأل الله أن يهدي الوالدة لأحسن الأخلاق والأعمال، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا هو.
نتمنى أن تستمري على ما أنت عليه من الخير، واعلمي أنك مأجورة على هذا الصبر على هذه المعاناة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يهدي الوالدة حتى تخرج من هذا الخطر العظيم، والظلم الذي لا يمكن أن يقبل من الناحية الشرعية، ولكن (بنيتي) إذا لم يصبر الواحد منا على أمه وعلى أبيه، فعلى من يكون الصبر؟
الأمر الثاني: نحن على قناعة تامة بهذه المعاناة، ونسأل الله أن يخرجك منها، ولا تظني أن الدين، أو أن أهل الدين، أو أيا من العقلاء يمكن أن يؤيد هذا الذي يحصل داخل بيتكم من المعاملة، بل لا نرضى سكوت إخوانك الذكور عن هذا الظلم، وسيذوقون مرارته مستقبلا إذا لم يوقفوا الوالدة ويعاونوها على إنصاف الأخوات، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يوفقكن وأن يرفعكن عنده درجات.
الذي نحب أن ننبه إليه، والذي شعرنا أنه من الأمور الخطيرة، هو ما لمسناه منك من اعتراض، ومن شعور بأنه لا فائدة من الدعاء، ومن أنك يائسة، هذه الأشياء لا نريد أن تتمدد في حياتك، فتعوذي بالله من شيطان يريد أن تتوقفي عن الدعاء، فقد قال النبي ﷺ: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل. قيل: وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء [رواه مسلم].
وهذا اليأس هو ما يفرح به عدونا الشيطان، إذ يريد أن يزرع في قلبك القنوط من رحمة الله، والجحود بنعم الله -تبارك وتعالى-، وهذا أمر خطير جدا؛ لذا، أرجو منك الانتباه والحذر في هذا الجانب، فلا تيأسي ولا تقنطي، وواصلي الاستمرار في الدعاء، وإذا كان الناس من قصر في رفع الظلم، فهو شريك في الظلم، والمظلوم ينتظره تأييد الله -تبارك وتعالى- والظالم ينتظر انتقام الله -تبارك وتعالى-.
لذلك: لا ينبغي لك أن تقصري في الدعاء، أو أن تتوقفي عن الصلاة، أو تهجري القرآن، أو تتركي الطاعات من أجل أحد من الناس؛ فإن هذا الابتلاء إنما هو امتحان لإخلاصك، أكنت تعملين لله أم لأجل غيره؟ فإن كنت تعملين لله، فالله حي لا يموت، فاطلبي رضاه، وعلقي قلبك به، فهو الذي لا يخيب من رجاه، ولا يضيع أجر من أحسن عملا.
واعلمي أن الله –تبارك وتعالى– لن يضيع صبرك، وسيجعل لك من ضيقك مخرجا، ومن همك فرجا، وهذه الدنيا –مهما طال فيها البلاء– فإلى زوال، فإن لم يتغير هذا الواقع المؤلم، فإن الدنيا نفسها لا تدوم، فهي التي فرقت بين الأحبة، وأخذت آباءنا وأمهاتنا وأجدادنا ومن كانوا قبلهم، فإنها وصفت بالفناء، قال تعالى: ﴿كل من عليها فان﴾.
فمهما اشتد البلاء، فإن النهاية قريبة، واللقاء بالله قريب، فاصبري واحتسبي، واعمري ما بقي من عمرك بالطاعات، وشغل النفس بما ينفعك في دينك ودنياك، فقد صبرت كثيرا، ولم يبق إلا القليل، فاصبري صبر الكرام، والله مع الصابرين.
وإن كنت ممن حفظن كتاب الله، فاثبتي واحتسبي؛ فإن لك بذلك أجرا عظيما عند الله –تبارك وتعالى–، وكوني على يقين أنه سيجعل لك فرجا ومخرجا، ويرزقك من يسعدك ويعينك، وسيبدل الله حالك إلى ما يرضيك ويرضي قلبك.
فثقي بربك الكريم، وواصلي فعل الخيرات، وأقبلي على الطاعات، وابتعدي عن التسخط والاعتراض على أقدار الله، فإن القضاء نافذ، والحكمة بالغة، والرضا به من أعظم أبواب الطمأنينة، واعلمي أن البلاء يحتاج إلى صبر، كما أن النعم تحتاج إلى شكر، فكوني لله كما يحب، يكن لك فوق ما تتمنين.
ونحن نرى أنك في نعم عظيمة، يجدر بك أن تتفكري فيها وتشكري الله عليها؛ فمن أعظمها أن وفقك لحفظ كتابه الكريم، وهي منة لا يوفق لها إلا من أحبه الله، ثم هذا التوفيق للعمل الصالح والمداومة على الطاعات، فاحمدي الله أن وفقك لطاعته، وجعلك في موضع عطاء لا موضع حاجة، فهم يحتاجون إليك، لا أنت التي تحتاجين إليهم، وهذه كرامة من الله ورفعة، فاثبتي على الخير، وثقي أن الفضل بيد الله، ونسأل الله أن يعينك على الخير.
ولا شك أن النبي ﷺ يرفض مثل هذا الظلم، فقد جاء ناصرا للبنات، ومعلما للعالمين كيف تكرم الأنثى، وهديه في التعامل مع البنات والصغيرات والأطفال كان عظيما جليلا، عليه صلاة الله وسلامه.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يردنا جميعا إلى الحق، وأن يعين كل من يستطيع أن يغير من الأخوال والأعمام والدعاة والداعيات والجيران، أن يوصلوا النصيحة للوالدة؛ لأنها على خطر عظيم بوقوعها في هذا الظلم، ونسأل الله تعالى أن يعينها على العودة إلى صوابها، وأن يعينكم أيضا، ويجعل لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه، هو ولي ذلك والقادر عليه.