السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا من السودان، عمري 22 سنة، حياتي صعبة منذ سنين، أعاني من مرض الاكتئاب، والأفكار الكثيرة تقتلني؛ مرة أقول: أنا إنسان ضعيف وكسول، ومرة أقول: الظروف هي السبب، ومرة أقول: الله لم يوفقني، ماذا أفعل؟ كأن الدنيا كلها تحاربني، منذ سنين أعاني من نوبات اكتئاب أفقد فيها الرغبة في الحياة، علاقتي مع الله كانت جيدة، لكن قبل شهرين انتكست، وصارت علاقتي مع الله سيئة جدا، ذنوبي كثيرة، لا أدري ماذا أفعل.
أنا إنسان سيئ، عديم الإيمان، كثير الذنوب، دائما أسيء الظن بالله فقط؛ لأنه ما أعطاني شيئا من الدنيا، حتى لو دعوت، لا فائدة؛ الله لن يستجيب لي بسبب ذنوبي الكثيرة، أنا لا أستحق رحمة الله، أنا أسوأ من ذلك، دائما أسيء الأدب مع الله، وأستحق الأسوأ، أنا لا أحب نفسي، دائما أريد تدمير نفسي، لا أرى أني أستحق السعادة، أنا تحت ضغط نفسي لا يوصف، أصبحت أرى أن الله خلقني ليعذبني، وأنه مع كل ذنب مني سيعاقبني أشد عقوبة.
والدي مريض، وحالته الصحية تتدهور منذ سنين، بلدي السودان يعيش حربا أهلية، ووضع أسرتي المادي ليس جيدا، العالم مليء بالكوارث والحروب، زملائي استطاعوا العمل، وأنا لم أستطع، أصبحت لا أتحمل، ماذا اقترفت في حياتي لكي أعيش هكذا؟ حتى بعد كل هذا، ليس عندي حتى أجر الصبر.
ماذا أفعل؟ حياة كلها عذاب، وفي النهاية لا أدري، هل أنا في الجنة أم في النار، ماذا أفعل؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حاتم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نرحب بك في إسلام ويب، ونسأل الله لك العافية والشفاء.
أيها الفاضل الكريم، أنت تعاني من عسر مزاج مع أفكار سلبية مهيمنة عليك، ولديك أيضا شيء من الوساوس، وهذه الحالات كثيرا ما تندرج تحت ما يسمى بالاكتئاب النفسي البسيط، ونؤكد لك أننا لا نقلل من شكواك أبدا، على العكس تماما تجد منا كل الاهتمام.
الفلسفة النفسية السليمة – أيها الفاضل الكريم – هي أن يؤمن الإنسان بقوة اللحظة الراهنة، أي بقوة الحاضر؛ لأن المستقبل يتأسس على ما نبنيه اليوم، والماضي قد مضى ولن يعود، ولا قيمة له إلا إذا كنا قد أخطأنا فيه، ففي هذه الحالة يجب أن نستغفر الله تعالى، ونتوب إليه، وأن نجعل ما فات خلف ظهورنا، ونسأله أن يغفر لنا ذنوبنا الماضية، ويجنبنا الزلل فيما هو قادم، ويرزقنا التقوى التي تحفظنا.
فكل ما تعاني منه من إشكالات في الدين، مثل عدم التزامك للطريق المستقيم، هذا كله يعالج من خلال قوة الآن، الحاضر، نعم باب التوبة باب عظيم وباب مفتوح، ومن الآن قرر أن تتوب، والتوبة النصوح لها شروطها، وسوف يحدثك عن ذلك –إن شاء الله تعالى– الشيخ الدكتور أحمد الفرجابي.
إذا لا تجد لنفسك عذرا، ولا تعتمد على المبررات والنكران كدفاعات نفسية سالبة، انهض كأنك ولدت اليوم، وأنت شاب، الله تعالى حباك بطاقات جسدية، ونفسية، وفكرية، واجتماعية، اترك كل ما تعتقد أنه سيئ خلف ظهرك، وابدأ بداية جديدة من الآن، إذا: قوة اللحظة الحالية هي التي تحدث التغيير، لا العيش في ظل الماضي، الذي أصبح ضعيفا لا يضيف ولا ينقص شيئا، إلا إذا كان فيه تقصير أو خطأ، فعلينا التوبة منه، ونحمد الله على كل خير حدث فيه، فإذا عشت الحاضر بقوة، فالمستقبل أيضا سوف يكون قويا وإيجابيا.
أرجو أن تأخذ بهذه النصيحة النفسية بعين الاعتبار، وتطبقها في حياتك بكل جدية وإخلاص، فالتغيير يبدأ من إدراك قوة اللحظة الحالية، ومن ثم العمل عليه بإرادة وعزيمة، وأن تترك الماضي وما فيه من أخطاء وراء ظهرك، وتستقبل المستقبل بأمل وثقة بالله تعالى.
الأمر الآخر – أيها الفاضل الكريم – أن تعلم أن لكل منا ثلاث أنفس، ليست نفسا واحدة فقط: النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة، وتختلف قوة هذه النفوس من شخص لآخر، ومن الواضح أن النفس الأمارة بالسوء هي التي تدفعك نحو الذنوب والمنكرات، لذلك أريدك أن توقظ نفسك اللوامة، فهي القادرة على مقاومة النفس الأمارة بالسوء، وحين تهزم النفس الأمارة بالسوء تشتعل -بإذن الله- النفس المطمئنة، فتسيطر وتصبح هي المهيمنة.
فيا أخي الكريم، الأمر بسيط للغاية، وما أطرحه عليك ليس نظريات خيالية، بل هو حقيقة علمية مثبتة، وعليه أدعوك لأن تبدأ التغيير من الآن، وأن تكون صاحب أمل وطموحات واضحة، فحدد أهدافك بدقة، وركز جهدك على دراستك بكل عزم وإصرار.
أما بالنسبة للظروف التي يمر بها السودان، فنسأل الله تعالى أن يفرج هموم الناس، وأن يجعل لهم من كل ضيق مخرجا، هذه الأمور وهذه التغيرات هي عامة، لم تقع عليك أنت وحدك أبدا، ونحن دائما في علم النفس والسلوك نقول: المصائب والكوارث المشتركة بين الناس، يجب ألا يكون أثرها النفسي متعاظما أو كبيرا على شخص واحد، فهي مشكلة عامة، وإن شاء الله تعالى تفرج الأمور.
ليس هناك ما يمنع أن تتناول أحد محسنات المزاج البسيطة، هناك دواء يسمى (فلوكستين، Fluoxetine) يمكنك تناوله بجرعة 20 ملغ يوميا لمدة ثلاثة أشهر، ثم تتوقف عن تناوله، دواء بسيط، ومتوفر في السودان، وقد وصفته لكثير من الناس، وهو غير إدماني وغير تعودي.
أيها الفاضل الكريم، أرجو أن تبني علاقات إيجابية مع أصدقاء إيجابيين، واسع دائما لبر والديك؛ لأن هذا مفتاح من مفاتيح الأجر والثواب، والراحة النفسية في الدنيا إن شاء الله تعالى.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرا، وبالتوفيق والسداد.
________________________________________________
انتهت إجابة الدكتور/ محمد عبد العليم .. استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان.
وتليها إجابة الدكتور الشيخ/ أحمد الفرجابي .. مستشار الشؤون الأسرية والتربوية.
________________________________________________
مرحبا بك -ابننا الفاضل- في هذا الموقع، ونشكر لك الاهتمام والتواصل، ونحب أن نؤكد في البداية أن اليد التي كتبت هذه الكلمات، والنفس التي فكرت بهذه الطريقة، وصلت إلى درجة من العلم والوعي تمكنها من عرض ما تعانيه، وهذه في حد ذاتها نعمة تستوجب الشكر حرمها آخرون.
والإنسان مطالب بأن ينظر في هذه الدنيا إلى من هم أقل منه: في العافية، وفي المال، وفي الولد، كما قال ﷺ: انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله هذا التوجيه النبوي يجعل الفكرة تنقلب رأسا على عقب، ويجعلك تبدأ الآن بدلا من عد صور المعاناة، أن تعد صور الخير والنجاح الذي عندك، نحن نعرف أن هناك صعوبات، لكن أرجو أن تبدأ بذكر الإيجابيات، فأنت تكتب وهناك من لا يعرف الكتابة، وأنت تستطيع أن تتواصل مع موقعك وهناك من لا يستطيع أن يتواصل، وأنت تعبر عن معاناتك وهناك من لا يقدر على التعبير.
فالإنسان في أمور الدنيا لا بد أن ينظر إلى من هم دونه أو أقل منه، حتى يشكر نعمة الله، وحتى لا يزدري نعم الله عليه، أما في أمر الآخرة، فينظر إلى من هم أعلى منه، ليتأسى بهم، مثلا في الصلاة، والصلاح، والصيام، والتلاوة، والقرب من الله تبارك وتعالى.
المسألة الثانية: هي ضرورة أن نذكر -ابننا الفاضل ونذكر أنفسنا- أن الله تبارك وتعالى ما رضي هذه الدنيا ثوابا لأوليائه، ولا عقابا لأعدائه، فقد يعطى هذه الدنيا إنسان لا يؤمن بالله -تبارك وتعالى- وقد يعاني في هذه الدنيا نبي من أنبياء الله أو ولي من أولياء الله، ولذلك، هذا المعنى ينبغي أن يكون واضحا؛ لأن الدنيا من أولها إلى آخرها لا تزن عند الله جناح بعوضة.
ثالثا: ندعوك إلى أن تحسن الصلة بينك وبين الله، بكثرة السجود والإنابة، فأنت لم تذكر لنا هذا الجانب، فإن الطمأنينة والسكينة وراحة البال، هذه بحث الناس عنها، لكن مكانها الأساس وقاعدتها الكبرى في قول الله تعالى: ﴿ٱلذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر ٱلله ألا بذكر ٱلله تطمئن ٱلقلوب﴾ ولذلك ندعوك إلى أن تصلح ما بينك وبين الله، تكثر من ذكره، تصلي على النبي ﷺ، وتكثر من الاستغفار، فإن هذا هو الذي يجلب للإنسان الطمأنينة والراحة.
رابعا: ندعوك إلى تجنب المعاصي، فإن لها شؤمها وثمارها المرة، قال ابن عباس: "إن للمعصية ظلمة في الوجه، وضيقا في الصدر، وتقتيرا في الرزق، وبغضة في قلوب الخلق، أما الحسنة، فلها ضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس"، فاحرص على أن تكون مطيعا لله -تبارك وتعالى- وخالف عدونا الشيطان، ونسأل الله أن يعينك على الثبات وعلى الخير.
خامسا: ينبغي أن تدرك أن المؤمن عليه أن يدعو، وهو رابح في كل الأحوال، وليس من الضروري أن تأتي الإجابة عاجلة، فـ ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: يا رسول الله، إذا نكثر، قال: الله أكثر وفي الحديث الآخر: يستجاب لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل قالوا: وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: يقول قد دعوتك فلا أراك تستجيب لي فيستحسر عند ذلك فيدع الدعاء، وهنا يفرح الشيطان؛ لأنه يوصلنا إلى اليأس من رحمة ربنا الرحيم سبحانه وتعالى.
إذا المؤمن الذي يدعو رابح في كل الأحوال:
- إما أن يستجيب الله دعوته، (إعطني كذا) فيعطيه.
- وإما أن يدخر له من الأجر مثلها.
- وإما أن يرفع عنه من البلاء والمصائب النازلة مثلها.
سادسا: ندعوك إلى أن تستفيد من توجيهات الدكتور محمد عبد العليم، وتحرص دائما على أن تنظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس، والأشياء الإيجابية، وتعوذ بالله من العجز والكسل، ولا تقارن نفسك بالآخرين؛ فإن الله أعطاك نعما حرمها غيرك، وأعطاهم نعما قد لا تكون عندك، ولكن السعيد هو من يعرف نعم الله عليه، فإذا أدى شكرها نال بشكره لربه المزيد، قال العظيم: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد﴾.
أخيرا، نحب أن نذكرك بأهمية إدراك فقه البلاء؛ فإن الله يبتلي الناس جميعا، أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة والمؤمن عند البلاء ينبغي أن يرضى بما يقدره الله، فـ إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
واعلم أن حسن الظن بالله تعالى سبب من أسباب استجابة الدعاء وفتح الأبواب، وفي الحديث: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء فاجتهد في أن ترضى بما يقدره الله -تبارك وتعالى- واعلم أنك ستؤجر، فأجر الصبر لا حد له، لكن الصبر عند الصدمة الأولى، كما جاء في الحديث: إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
استبشر خيرا، وانظر إلى حياتك بأمل جديد، وثقة في الله المجيد، واعلم أن هذا الكون ملك لله، ولن يحدث فيه إلا ما أراده الله -تبارك وتعالى- والعاقبة للصابرين، فأصلح ما بينك وبين الله، وانتظر الخير الذي يأتيك من الله.
ختاما، نرجو أن تنزع هذه النظارة السوداء، ونذكرك بأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، ثم يتوكل على الكريم الوهاب، ويرضى بما يقدره -سبحانه وتعالى- ونسأل الله أن يجعلنا وإياك ممن إذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أذنبوا استغفروا.