السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخواني، أكتب إليكم وقد عجزت عن فهم نفسي، ففي المقام الأول أنا خذلت ربي، وفي المقام الثاني خذلت ديني، وفي المقام الثالث خذلت نفسي.
رغم أن عمري 19 عاما، إلا أنني ارتكبت من الذنوب ما لا يخطر على بال، ولو سمعتم ما فعلت، لما أجبتم على سؤالي أصلا، مع أنني مستمر في صلاتي منذ أن كان عمري 8 سنوات، وقد تعب والداي كثيرا في تربيتي وتعليمي الدين والخلق الحسن، والناس يرونني خلوقا ومحترما.
لكن بيني وبين نفسي، اقترفت الكبائر، وخنت الأمانات، وخالفت العهود، ودخلت في دائرة المنافقين، وغلبت شهوتي قدرتي العقلية والمنطقية.
وكلما فكرت في التوبة، أشعر أنني لا أستحقها، وأنه حتى لو سامحني الله، فلن أستطيع مسامحة نفسي، لأن ما ارتكبته لا يمكن للعقل تخيله، وأعلم أن جذور هذا الانحدار تعود إلى مواقف مروعة في طفولتي، كانت السبب في ما أنا عليه الآن.
أرجو منكم الإجابة، فأنا لا يخطر ببالي الآن إلا أنني أدنى الناس، وكلما رأيت رجلا أو صديقا أو أخا أو أي إنسان، شعرت أنني أقل منه بكثير، بل حتى أقل من المشركين والكفار وغيرهم.
أنا عاجز عن بدء بداية جديدة طاهرة، لأن ذنوبي تطاردني، ولا أدري كيف أخرج من هذا الظلام؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مجهول حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلا بك -أخي الكريم-، ومرحبا بك بين إخوانك في إسلام ويب، الذين يرجون لك الخير كما يرجونه لأنفسهم، وأسأل الله أن يجعل هذه الكلمات نورا لقلبك، وبلسما لجراحك، وبداية لطريقك إلى ربك.
لقد آلمنا حقا ما وصلت إليه، خاصة وقد نشأت في بيت طاهر، فأنت مقيم على الصلاة منذ الصغر، وتربيت على الخلق، وسقيت من معين الشريعة، فكيف تغلبت الشهوة على صوت الفطرة؟! وكيف انتصرت الغفلة على نور التوحيد؟! وكيف يعصى الله تحت ستره؟!
أفيأمن من كانت هذه حاله أن يختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله-؟ أفيظن أن الموت لن يدركه إلا بعد أن يتوب؟! أفيأمن أن يؤخر الله قبضه حتى يقول: تبت؟ وهل أمن العذاب إلا علامة على سكرة الغفلة؟ قال الله عز وجل: {أفأمنوا مكر الله ۚ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
لكن قف هنا وتأمل: فليس الذنب -مهما عظم- شيئا يذكر مع سعة رحمة الله، فابك على ما وقعت فيه كما يبكي العبد بين يدي سيده، لا كما يبكي الضعيف على حظه، ولكن احذر أن يدفعك ذلك إلى اليأس من رحمة الله.
ودعنا نكمل إجابتنا لك في هذه النقاط، فاستمع إليها بقلبك:
أولا: لست وحدك من عصى: كل بني آدم خطاء، ولا يوجد على وجه الأرض إنسان لم يذنب، لكن الفرق بين من نجا ومن هلك هو: ماذا فعل بعد الذنب؟ هل سقط وبقي في سقطته، أم سقط، ثم ندم، ثم بكى، ثم قام وهو يقول:
"اللهم لا طاقة لي بسخطك، ولكني أحبك، فلا تطردني عن بابك"؟
أنت اليوم واقف على عتبة عظيمة؛ عتبة من عرف نفسه، وانكسر قلبه، وانهار غروره، والتمس طريق الرجوع، وهذا من أعظم علامات عناية الله بك.
ثانيا: اعلم أن الله لا يرد من جاءه منكسرا، وأنه سبحانه يحب التائبين، وأن رحمته سبقت غضبه.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة"، أتدري ما معنى هذا؟ يعني أن الله الجليل، العظيم، الملك، القدوس يفرح بك أنت إذا تبت! أفتراك بعد هذا تقول: ليس من حقي أن أتوب؟ اعلم أن التوبة ليست من حقك، بل هي أمر من ربك، قال الله تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}، فلا تجعل ذنبك أعظم من رحمة ربك، ولا تجعل ماضيك حاجزا بينك وبين خالقك.
ثالثا: أما عن شعورك بأنك أدنى الناس، فدعنا نقول لك شيئا مهما وخطيرا: إياك أن تجعل هذا الشعور يحبسك عن التوبة، فالشيطان يوسوس لك ليبقيك في الوحل، فيقول لك: لقد سقطت كثيرا، فلا تصلح للتوبة، وهذا من أعظم مداخل إبليس.
إن الله تعالى قال: {قل يا عبادي ٱلذين أسرفوا علىٰٓ أنفسهم لا تقنطوا من رحمة ٱلله ۚ إن ٱلله يغفر ٱلذنوب جميعا ۚ إنهۥ هو ٱلغفور ٱلرحيم}، حتى إن كنت ترى نفسك أدنى من الكفار، فأنت لا تدري، فلعل هذه التوبة ترفعك إلى درجة الأولياء، فكم من مذنب صار تقيا، وكم من طائع اغتر فهلك.
رابعا: هذه خطوات عملية أرجو أن تأخذ بها:
1- صل ركعتي توبة الآن، وقل فيها: "اللهم إني قد أسرفت على نفسي، ولا ملجأ لي منك إلا إليك، فاقبلني عبدا مكسورا لا يرجو إلا رحمتك".
2- ابك بين يديه، وقل له: "سامحني، فإني لا أطيق بعدك".
3- ابدأ بداية جديدة، ولو كان في قلبك وجع.
4- لا تعتزل الناس، ولا تظهر لهم ضعفك، بل عد كما كنت، وامض بخطى ثابتة.
5- اقطع كل طريق يعيدك إلى الذنب، واحذف كل ما يذكرك به، وتخلص من أصحابه.
6- داوم على القرآن، وخاصة سورة التوبة، وسورة الزمر.
7- اربط نفسك بصحبة صالحة، وإن لم تجد، فأخبرني وسأساعدك.
8- افتح صفحة صادقة مع والديك، فلن تجدا أبدا أقرب إليك منهما، ولا أحرص عليك منهما، ولا أنصح لك منهما.
وأخيرا، تذكر دائما: الله لا يعيرك بذنب تبت منه.
خامسا: أما ما حدث لك في طفولتك، فأنت لست مسؤولا عن الجراح التي أصابتك وأنت صغير، ولكنك الآن مسؤول عن أن تداوي هذه الجراح، واحذر أن تجعل مما مضى تبريرا لأخطائك، فإن هذا من ألاعيب الشيطان، فاحذره، لا تبرر قبيح ما فعلت، ولكن تب وانهض وقم، ابك على ما حدث، نعم…
وأخيرا: {إن ٱلله يحب ٱلتوٰبين ويحب ٱلمتطهرين}، رددها كثيرا في قلبك وعلى لسانك.
اللهم افتح لهذا الشاب أبواب التوبة، وثبته، وأنزل عليه برد اليقين وطمأنينة الغفران، واملأ قلبه بنورك ورحمتك.