السؤال
السلام عليكم.
أنا فتاة، تعرضت لكثير من الصدمات في حياتي، منذ أن كان عمري 9 سنوات، ولكنني خجولة بطبعي، ولا أتحدث كثيرا، ولا أحب أن أشتكي لأحد، حتى حدث لي شيء قلب موازين حياتي.
فقد أحببت شابا، وتعلقت به كثيرا، وظننت أنه أهم شخص في حياتي؛ فقد أعطاني الاهتمام الذي كنت أتمناه من أقرب الناس لي، ولكن هذا لم يحدث، ثم تركني هذا الشاب منذ فترة؛ لأنه شخص متدين جدا؛ فبعد ثلاث سنوات قرر أن نفترق لأجل أن علاقتنا حرام، وأن هذا أفضل حل، بالرغم من حبه لي.
أنا أتفهمه، ولأكون صريحة: هو واقعي، وحقيقي، ولكنني لم أستطع تخطي الموضوع؛ فقد تعبت كثيرا، وعيوني ذبلت من البكاء والألم، وأصبحت أحاول الانتحار، بالرغم من أنني أخاف من الله كثيرا، وأصبحت لا أنام جيدا، وفعلت جميع الحلول، وتمسكت بصلاتي وكل شيء من أجل نسيانه، وأصحبت أقرأ سورة البقرة، ولكني لم أجد حلا!
أنا متعلقة به جدا، وأحبه جدا، وقد جلست مع نفسي، وتذكرت ما مررت به من ألم منذ طفولتي حتى الآن، ووجدت أن هذا ليس حبا، بل اهتماما كنت أتمناه كثيرا؛ فقد كنت أتمنى من عائلتي أن تهتم بي، وأن يرونني مثلما يراني هو، ولكن هذا نصيب، وعندما تذكرت كل صدمات حياتي، اكتشفت بأنني أعاني نفسيا جدا، ومرهقة، وأحتاج لشخص يسمعني.
أقسم بأنني بكيت بكاء لم أبك مثله منذ سنين، كنت أظن أن البكاء ضعف، فقط أردت علاجا نفسيا على الإنترنت؛ لأنني بطبيعة الحال لن أستطيع الطلب من عائلتي لكي أتعالج، كما أنه لا يمكنني دفع تكاليف العلاج لأنني قاصر.
أحتاج لشخص يسمعني، أو يعطيني الحب لحالتي النفسية؛ لأنني تعبت كثيرا، أشعر بأن الحياة أصبحت لا تطيقني.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ روح حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
شكرا على استشارتك، وعلى مشاركتك المفصلة، التي بينت فيها حجم المعاناة التي تعيشينها، نتيجة ما تعرضت له من صدمات متكررة.
بالنسبة لسؤالك عن حاجتك لطبيب نفسي، لمساعدتك في الخروج من هذه الحالة، فإن هذا أمر مهم وضروري، وخاصة في ظل ما تمرين به من ضيق، وألم نفسي واضح.
ورغم أنني لا أملك أرقام تواصل مباشرة، أو عناوين لأطباء معينين يمكنني ترشيحهم، فإن هناك العديد من الأطباء النفسيين المتخصصين في ليبيا، سواء في العيادات الحكومية، أو الخاصة، ويمكن الوصول إليهم عبر البحث، أو من خلال التواصل مع المراكز الطبية المحلية، أو حتى عبر الإنترنت.
فإذا كانت هناك صعوبة في التكاليف، فبعض الأطباء والمراكز يقدمون استشارات بأسعار رمزية، وهناك أيضا مواقع إلكترونية تقدم جلسات علاج معرفي سلوكي (CBT) مجانا، أو برسوم منخفضة، ويمكنك البحث عنها، والاستفادة منها؛ فهي تساعد كثيرا في مثل حالتك.
ولا تنس كذلك أهمية الدعم الأسري في هذه المرحلة؛ فحاولي أن تتقربي من أقرب الناس إليك، ممن تثقين بهم، كوالدتك، أو إخوتك، وشاركيهم ما تمرين به؛ فوجودهم بجانبك يمكن أن يمنحك طاقة كبيرة، ويساهم في تحسن حالتك.
لا تتأخري في طلب المساعدة، وابدئي بخطوة بسيطة من داخل البيت، ثم ابحثي عمن يمكنه مرافقتك نفسيا ومهنيا من المختصين؛ فحالتك -بإذن الله- قابلة للعلاج، وخاصة أنك ما زلت في عمر مبكر، ويمكنك تجاوز ما تمرين به إذا توفرت لك المساعدة المناسبة.
أسأل الله أن يهيأ لك أمر خير، وينقذك من هذه الظروف.
______________________________________
انتهت إجابة الدكتور/ محمد عمر آل طاهر - استشاري نفسي-
وتليها إجابة الشيخ الدكتور: أحمد المحمدي - المستشار التربوي-.
______________________________________
مرحبا بك في إسلام ويب، ونسأل الله أن يرزقك السكينة بعد الاضطراب، والشفاء بعد الانكسار، وأن يجعل لك من ضيقك فرجا، ومن حزنك مخرجا، وأن يبدلك طمأنينة لا تغادر قلبك أبدا.
لقد وصلتنا رسالتك، فلامسنا فيها ألما صادقا، وجرحا عميقا، وسؤالا يبحث عن أمان: كيف أتجاوز؟ وكيف أعود؟
ونحن هنا لنقول لك أولا: أنت لست وحدك، بل بين إخوانك وأهلك، وما مررت به مفهوم، لكنه يحتاج إلى وعي هادئ، وخريطة تعاف واقعية، مقرونة بنور الإيمان، وصحبة صالحة، وستر يحفظك ويصونك.
وفي هذه الاستشارة لن نتحدث عن حكم التواصل مع الشاب، لأنك –من خلال رسالتك– أقررت بحرمته، وتفهمت خطأه، وقطعت فيه خطوات نحو التوبة والانفكاك، وهو موقف نثني عليه، ونشجعك على الثبات عليه، فالصدق في الرجوع إلى الله هو بداية الشفاء الحقيقي.
أولا: احذري من أسر الشيطان، وأقفاص الوهم: فأخطر ما يقع فيه الإنسان أن يحبس في فكرة، ويترك الشيطان ينسج منها قفصا داخليا في لحظة ألم، أو خذلان، أو فراغ، وقد تتسلل فكرة إلى القلب: "لن أعيش بدون هذا الإنسان"، أو أنه "هو الوحيد الذي اهتم بي"، ثم يأتي غياب الاحتواء العائلي ليغذي هذه الفكرة، ويضخمها، حتى تتحول إلى قناعة زائفة، ويتدخل الشيطان ليربط بها القلب، فيدور في حلقة مغلقة من الوهم والأمل الكاذب.
وهنا تكمن الخطورة: أن تحبسي نفسك في زنزانة وهمية، وتغلقي بابها بمفتاح في يدك، ثم تقولين: "لا أستطيع الخروج!"، وهذا من أعظم مكائد الشيطان، قال الله تعالى: ﴿ إنما النجوىٰ من ٱلشيطٰن ليحزن ٱلذين آمنوا ﴾ [المجادلة: 10] وقال: ﴿ولا تتبعوا خطوات ٱلشيطٰن ۚ إنهۥ لكم عدوۭ مبين ﴾ [البقرة: 168].
ولأن الشيطان لا يرضى أن يفسد على الإنسان دنياه فقط، فيعمد حين يرى القلب مكسورا، والعزيمة ضعيفة، إلى دفعه نحو أقصى درجات التيه، وهو التفكير في الانتحار، إذا تراكم الألم، ولم يجد الإنسان من يسمعه، أو يهديه، فيأتيه الشيطان في صورته الأخيرة: "أنه كل شيء.. وارتح.. ولن يشعر بك أحد.. والحياة لا معنى لها..."، حتى يفسد عليه آخرته بعدما أفسد دنياه، قال الله تعالى: ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ۚ إن ٱلله كان بكم رحيما ﴾ [النساء: 29]، وقال النبي ﷺ: ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة [رواه البخاري ومسلم].
ثانيا: ما قدر لك لن يخطئك، وتذكري –وأنت المؤمنة– أن أقدار الله ماضية لا محالة، فأنت –ولله الحمد– تعرفين ربك، وتثقين بحكمه، وتدركين أن ما قدره الله لك لن يخطئك، وما لم يقدره فلن تدركيه، ولو أفنيت فيه عمرك، قال النبي ﷺ: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، رفعت الأقلام وجفت الصحف [رواه الترمذي، وصححه الألباني].
فالزواج رزق لا يؤخذ بالعاطفة، بل يؤتى بالإيمان، والرضا، وانتظار الوقت الذي قدره الله، ولعل الله صرف عنك شرا تظنينه خيرا، وهو القائل: ﴿ وعسىٰ أن تكرهوا۟ شيـۭٔا ويجعل ٱلله فيه خيرۭا كثيرۭا ﴾ [النساء: 19].
ثالثا: حزنك طبيعي، لكنه متراكم؛ فما تعيشينه من حزن ليس ضعفا، بل تراكم وجع قديم، ولم تكن هذه أول خيبة، بل حلقة من سلسلة ألم ممتدة منذ الطفولة: كغياب الاحتواء، وانعدام التقدير، وافتقاد الدفء العاطفي...كلها أسباب جعلت قلبك يبحث عن أي يد تشعره بأنه مرئي، محبوب ومفهوم، وحين وجدت شخصا استمع إليك، ظننت أنه الأمان، بينما كنت تبحثين عن الاحتواء لا الارتباط.
أنت لم تطلبي حب رجل، بل سندا يشعرك بوجودك، وهذا هو مكمن الداء، وما أكثر من يخلط بين "التعلق الناتج عن فراغ"، و"الحب الناتج عن وعي"؛ الأول ينهك النفس، والثاني يبني الأسرة، والله سبحانه لم يوجب علينا أن نحب أول من رأينا فيه دفئا، بل أن نختار من يعيننا على طاعته، ويكمل نقصنا، لا يغذي جراحنا القديمة.
رابعا: تعاف روحي وسلوكي متكامل؛ فما تحتاجينه الآن ليس علاجا نفسيا فقط، بل خريطة تعاف تشمل:
• تفريغا صادقا لما بداخلك: (بكتابة، أو شكوى إلى الله، أو حديث مع النفس).
• جلسات خلوة يومية مع القرآن والأذكار، وتأملات في أسمائه وصفاته.
• قطع كامل لأي بقايا من العلاقة الماضية:
- مسح الرسائل.
- حذف الرقم.
- إغلاق الحسابات التي تربطك به.
- منع العودة لأي منها؛ فما دام القلب يتغذى على آثار العلاقة، فلن يلتئم الجرح.
•الالتحاق بصحبة صالحة من الفتيات الصادقات، فهن زاد الطريق، ومرآة النفس، ودواء الوحدة، قال ﷺ: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل [رواه أبو داود والترمذي]، اطلبي صحبتهم دون أن تخبريهم بتفاصيل ما حدث.
خامسا: اكتمي ما كان: فلا تخبري أحدا بما دار بينك وبين هذا الشاب؛ لا صديقة، ولا قريبة، ولا حتى خاطبا إن أتاك؛ فما حدث ذنب قد تبت منه، وهو بينك وبين الله، فلا تفتحي باب التكرار أو الريبة.
- ابحثي في محارمك –أخت، أخ، خالة، عم...– عمن تثقين به، ليعينك على إيصال صوتك لأهلك بطريقة غير مباشرة، بشرط أن يكون شخصا حكيما، ومصدر ثقة، ولا يعلم شيئا عما جرى.
سادسا: خطوات يومية للتزود الإيماني:
• الورد القرآني اليومي، ولو صفحة مع تدبر.
• الذكر والاستغفار، وخاصة عند الشعور بالضعف.
• الانخراط في نشاط دعوي، أو تطوعي مع أهل الخير.
• كتابة يومية لما في داخلك، وتفريغه في سجود ودعاء، لا في أحاديث الناس.
سابعا: رسالتنا إليك بوضوح:
- أنت لست مكسورة، بل مجاهدة.
- أنت لست فاشلة، بل ناجية -بإذن الله-.
- ما دمت قد عدت إلى الله، وأغلقت باب الحرام، فأنت في مقام عال عند الله، قال تعالى: ﴿ إن ٱلذين قالوا۟ ربنا ٱلله ثم ٱستقـٰموا۟ تتنزل عليهم ٱلملـٰٓئكة ألا تخافوا۟ ولا تحزنوٓا۟ ﴾ [فصلت: 30].
ونحن على يقين بأن ما مررت به، سيكون يوما قصة شفاء تروينها لغيرك، لا كضعف، بل كقوة انتصرت على الشيطان، والهوى، والخذلان.
نسأل الله أن يعجل بفرجك، ويملأ قلبك يقينا، ويبدلك خيرا مما فقدت، وأن يرزقك زوجا صالحا يحبك لوجه الله، ويسكنك روحه قبل بيته، ويعوضك عما مضى بكل ما يسر قلبك.
والله الموفق.