السؤال
أنا شاب عمري 23 عاما، ولدت وعشت طوال حياتي في الغربة، أشعر أنني لا أنتمي إلى المكان الذي أعيش فيه.
تخرجت من الثانوية بتفوق، وحصلت على المركز الثاني على مستوى المحافظة، لكن كوني وافدا حرمت من فرص التعليم الجامعي والمنح. بقيت ثلاث سنوات بلا دراسة ولا عمل، أشاهد أصدقائي وأقاربي يتقدمون، بينما أنا ثابت في مكاني. كان والدي تحت ضغط مالي شديد لتعليم إخوتي الأكبر مني في جامعات خاصة، حتى استطاع بعد ثلاث سنوات تدبير مبلغ لأدرس في دولة آسيوية مع أخي.
وصلت إلى هنالك بأحلام كبيرة، لكن تعثر تخصص أخي، واضطر للعودة، وكان خياري البقاء وحيدا، صدمت ببيئة مليئة بالانفتاح والمعاصي! ومواقف أخاف أن تجرني للحرام. قررت العودة قبل حتى التسجيل في الجامعة، في أقل من شهر واحد، حفظا لديني ومال والدي، لكن منذ ذلك اليوم والندم يطاردني.
الأهل والأقارب والمعلمون انتقدوا قراري، وقارنوني بغيري ممن درسوا بالخارج وحافظوا على التزامهم، دخلت في دوامة من الضغط النفسي، والشعور بالنقص، وفقدان الثقة بالنفس. ضعفت صلتي بالصلاة والالتزام، ووقعت في ذنوب كثيرة، وأصبحت حائرا في هويتي: هل أنا إنسان صالح بأفعال سيئة، أم سيء بأفعال صالحة؟
منذ ست سنوات لم أعرف الراحة، وأشعر بضياع داخلي وفقدان المعنى، وكلما تحدث الناس عن شاب أو شابة ذهبوا للابتعاث، يعتصرني قلبي ندما، وانتقاصا لنفسي، وشعورا بالسوء تجاه مستقبلي وخياراتي.
ظننت أن من ترك شيئا لله، عوضه الله بخير منه، وأنا هنا الآن، بلا شيء..، أعيش ندما، وإرهاقا، وحسدا للجميع.
قلبي ليس سليما، تركت التزامي، أصبحت مدخنا مدمنا، مضيعا لصلاتي... وارتكبت سوءا... وما أصبحت أراني إلا منافقا.
تفضلوا بقبول فائق الاحترام.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ ... حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك أخي الفاضل في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.
أخي الفاضل: نشعر بعمق المعاناة التي تمر بها، والألم الذي يعتصر قلبك، وحالة الإحباط التي تعيشها، ولكن هل سألت نفسك بجدية: هل الهم والحزن، والغرق في الشهوات والذنوب والمعاصي سيحل المشكلة؟! لا شك أن هذا لن يحل شيء من المشكلة، بل سيزيد نفسك ضعفا، وروحك إرهاقا، ويجعل قدرتك على التفكير في حلول والخروج من الواقع الصعب الذي تعيشه أكثر عسرا؛ لذلك دعني أخي الكريم، أوضح لك بعض الأمور المهمة:
أولا: أنت بحاجة إلى حسن إدارة الأزمات واستعادة التوازن بعد السقوط، إذ يظهر من سؤالك أنك صاحب شخصية شديدة الحساسية، وهذا ما يجعل آراء الآخرين تؤثر فيك بقوة.
اعلم -وفقك الله- أن من الطبيعي أن يمر الإنسان في حياته بقرارات خاطئة، لكن من فضل الله تعالى أنه جعل للإنسان قدرة على استعادة توازنه، والمضي قدما في طريق البناء، فلو أن الإنسان هلك من أول سقوط لما قام له بعد ذلك قائم، ولا تحقق إنجاز، أو إبداع، أو تعلم من الأخطاء؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان.
أنت الآن تعيش لحظات العجز، ولا شك أن كلمة (لو) قد استولت على نفسك، ففتحت عمل الشيطان، فدخل من خلالها باب الوسوسة والإحباط، وأغرقك في المعاصي التي تركت الدراسة لأجل الهرب منها، وجعلك تشك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لن تدع شيئا لله إلا آتاك الله خيرا منه.
لذلك؛ فأنت بحاجة أولا إلى استعادة علاقتك بالله تعالى، فهذا هو السبيل لإعادة التوازن، وبناء الذات من جديد، بادر -من فورك- إلى التوبة النصوح مما وقعت فيه، وأكثر من الدعاء والاستغفار والرجوع إلى الله، مقرونا بالندم والعزم على عدم العودة للمعاصي، ففي الحديث السابق كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم: استعن بالله ولا تعجز، فإياك أن يسيطر عليك العجز، فإنه الباب الذي يدخل منه الشيطان ليغرس في قلبك اليأس والقنوط من رحمة الله، وحتى وإن تكرر منك الذنب، فباب التوبة مفتوح، وفضل الله وكرمه لا يحرم منه تائب ما لم تطلع الشمس من مغربها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.
فالصلاح لا يعني أن تخلو حياتك من الذنوب، وإنما يعني أن تملك القدرة على التوبة والعودة بعد الذنب، وهذا هو حال الصالحين والأتقياء، قال تعالى: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾.
ثانيا: قلت: ظننت أن من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، وأنا هنا بلا شيء، كيف حكمت أنك بلا شيء؟! ألم تحفظ دينك في تلك الغربة؟ وهو أعظم مكسب للإنسان في حياته، لا تلتفت إلى كلام من حولك، فهم لم يعيشوا واقعك، ولا يعرفون طبيعة نفسك وحرصك على طاعة ربك، والناس يختلفون في مدى مقاومتهم للشهوات والفتن، حسب إيمانهم وحرصهم على الطاعات، فلا تجعل حكمهم معيارا لصواب قرارك.
ثم اعلم -وفقك الله- أن وعد الله بالعوض لا يعني أن يكون عاجلا، ولا أن يكون دنيويا بالضرورة، ولا أن يأتي على الصورة التي تتمناها، فقد يؤخره الله ليختبر صدقك، وقد يجعله في قلبك راحة وطمأنينة، وقد يجعله في آخرتك خيرا عظيما.
وربما كان عوضه دفع بلاء عنك وأنت لا تعلم، لكنك عندما نظرت إلى العوض بصورة محدودة ظننت أنك فقدت كل شيء، وهذا ضعف يقين، وجهل بأقدار الله وحكمته.
تأمل في قصة يوسف عليه السلام، كيف بدأت حياته برؤيا فيها بشارة بالتمكين والملك، ثم سار معظم عمره في الاتجاه المضاد: ألقي في البئر، وبيع بثمن بخس، وصار خادما، ثم تعرض للفتنة والسجن بضع سنين، ومع ذلك لم ينس الله تعالى، ولم ييأس، حتى جاء التمكين في النهاية، لذلك قال تعالى في ختام السورة ﴿حتىٰ إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ۖ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين﴾، وقد قال ابن القيم رحمه الله: إذا أغلق الله أمامك بابا بحكمته، فتح لك بابا برحمته، لكنه لا يفتحه حتى يرى صدق صبرك وانتظارك.
ثالثا: كيف تتعامل مع الماضي؟
أخي الكريم: الندم الذي يعتصرك اليوم يمكن أن يكون وقودا للانطلاق، أو قيدا يأسرك في سجن الماضي، والقرار بيدك: فإن استسلمت لاسترجاع صور أقرانك، ومقارنة نفسك بهم، فسيأكلك الغم والحزن حتى تصل إلى العجز والترك، أما إن حولت الندم إلى دافع للعمل والبناء من جديد، فسيكون من أعظم النعم.
تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز... الحديث، فالعبرة بالحرص على ما ينفع الآن، لا بالحسرة على ما مضى، اجعل همك تغيير واقعك، وابذل جهدك وسعيك، مستعينا بالله، فإن التوكل الصادق هو سر النهوض من الكبوات، وإياك أن تكثر من (لو)، فإنها مفتاح الشيطان، وباب الضعف واليأس.
أخي الفاضل: ما زلت في مقتبل العمر، والفرص أمامك واسعة، فلا تقارن نفسك بالآخرين، ففيك من القدرات ما يجعلك قادرا على النهوض من جديد، ولا تقطع صلتك بالله، فهي مصدر قوتك الحقيقية، ومفتاح السكينة في قلبك، وسبب التوفيق في قراراتك.
اجعل لك وردا من الدعاء والذكر والقرآن، وستجد أثره في استقرار نفسك وصواب مسيرك.
ابحث عن فرص جديدة للدراسة والعمل، وسع دائرة علاقاتك، فذلك يفتح لك أبوابا لم تكن تخطر ببالك، وواجه كل من يلومك بشجاعة وثبات، واذكر قوله تعالى: ﴿إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾، فأحسن الظن بالله، ولا تستسلم للعجز، ولا ترسل لنفسك رسائل سلبية كقولك "أنك منافق" أو "مدمن"، فتزيد ضعفك، بل قل كما أرشد لذلك النبي الكريم "قدر الله وما شاء فعل".
وفقك الله، ويسر أمرك.