السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أكتب إليكم وأنا مثقلة بالهموم، نشأت في عائلة غير ملتزمة كثيرا، نصلي ونلبس الحجاب، لكن اهتمامنا الأكبر كان بالدنيا، والداي يعملان معا منذ زواجهما، وأمي صاحبة العمل، وحياتنا المادية جيدة، ولي عدة أخوات.
كنت متفوقة والتحقت بأفضل جامعة، وهناك عرفت الصحبة الصالحة، فبدأت طريق الالتزام رغم العقبات، حاولت إصلاح نفسي ودعوة أهلي، لكني لم أجد استجابة، وأخواتي يتأثرن بالإنترنت، وهذا يمزق قلبي، أحيانا أناقش وأتكلم مع أمي عن أهمية التربية ثم أندم، فهي تلومني كثيرا وتقول إنني تغيرت، وألقت مسؤولية أخواتي علي بسبب غيابها، رغم أنني أرى التربية بيد الوالدين أولا، وأنا لا أملك سوى النصح، ومع ذلك أجد أن عملها يطغي على اهتمامها بنا، وهذا يؤلمني.
صراحة: أمي كانت تحاول، لكنها انتكست؛ لأن والدي يحسب أننا على خير، فلا يعطي لهذا اهتماما كثيرا، وبسبب ضرورة وجودها في العمل -كما تقول-، وهي تعمل على توفير ما نحتاجه من مال مع أبي.
أشعر أنني أحمل جبالا من المسؤوليات: بر والدي، النجاح في دراستي، تزكية نفسي، وإصلاح أهلي، لكني أعجز.
العام الماضي حاولت الانخراط معهن أكثر، لكن لم أجد إلا الإهمال وعدم المراعاة، فتأذيت نفسيا ولم أزك نفسي كما أردت، بل قضيت وقتي أبكي من شدة الضغوط وعجزي.
أحب والدي كثيرا، لكني تعبت، فأسأل الله كثيرا أن يرزقني زوجا صالحا يعينني على التزكية، ولأعوض ما سبق، لكن هموم أهلي تلاحقني، فأقول في نفسي: هل يحق لي الزواج وبيتنا تغلب عليه التفاهة وسلطة الإنترنت؟ تعبت جدا ولا أعرف كيف أوازن بين كل ذلك، كثيرا ما أبكي، هل أركز على نفسي أولا؟ كيف أتعامل مع أهلي دون أن أتأذى نفسيا؟
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أم أنس حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكر لك ثقتك في عرض استشارتك عبر موقع إسلام ويب، ونسأل الله تعالى أن يشرح صدرك، ويثبتك على طاعته، ويجعل ما تعانينه من هموم وضغوط رفعة لك في الدنيا والآخرة، وقد بدا من خلال رسالتك أنك فتاة تمتلكين وعيا وإدراكا طيبا، وأن الله قد أنعم عليك بالصحبة الصالحة التي غرست فيك الحرص على الالتزام، والتمسك بالدين، وهذه نعمة جليلة تستحق أن تحمدي الله عليها كثيرا.
وبالنظر إلى ما ذكرت من تفاصيل يتضح أن مشكلتك متعددة الجوانب، ومن ثم فإن الرد سيكون موزعا على عدة محاور أساسية كما يلي:
أولا: مسؤوليتك تجاه نفسك:
تذكري أن أول وأعظم مسؤولية ملقاة على عاتقك هي تزكية نفسك، والاهتمام بإيمانك وصلتك بربك، فهذا هو الأساس الذي ينطلق منه كل خير في حياتك، قال تعالى:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)، فلا تثقلي كاهلك بما لا تطيقين، وابدئي بنفسك؛ لأن صلاحك سيكون أعظم وسيلة للتأثير فيمن حولك.
ثانيا: تعاملك مع والديك:
بر الوالدين حق عظيم لا يسقط مهما كان منهما من تقصير، أو انشغال، وأنت مأجورة بإذن الله على صبرك وإحسانك لهما، لذلك اجتهدي أن تكوني عونا لهما بالكلمة الطيبة، والدعاء الصالح، وابتعدي عن اللوم المباشر، أو كثرة النقد؛ لأن ذلك قد يوسع الفجوة بينك وبينهما، وقد أمرنا الله ببرهما والإحسان إليهما كما قال سبحانه: {وبالوالدين إحسانا}، واعلمي أن أمك – مهما بدا لك غير ذلك – فهي حريصة على مصلحتك، وربما ثقتها في أخلاقك وقدرتك دفعتها لأن تحملك بعض المسؤولية تجاه أخواتك، فاقتربي منها بلطف، وأظهري محبتك لها وحرصك على رضاها، واجعلي النصيحة تأتي في إطار المودة والرفق.
ثالثا: علاقتك مع أخواتك وتأثرهن بالإنترنت:
لا تحملي نفسك ما لا تطيقين، فالتربية في المقام الأول مسؤولية الوالدين، أما دورك فيقتصر على النصح اللطيف والقدوة الصالحة.
واعلمي أن كونك قدوة حسنة لأخواتك، يمنحهن شعورا بالطمأنينة والاستقرار النفسي، فينجذبن إليك أكثر مما لو أكثرت من النقاش والجدال، فاجعلي وجودك بينهن مصدر أمل وإشراق، لا مجرد مواعظ متكررة.
رابعا: توازنك النفسي والدراسي:
من الطبيعي أن تشعري بالضغط النفسي حين تحاولين حمل جميع هذه المسؤوليات دفعة واحدة، فالنفس لها حدود وطاقتها محدودة، لذلك أنت بحاجة إلى الاعتدال والتوازن، فاجتهدي في دراستك بما يحقق طموحك، وداومي على صلاتك وعبادتك، فهي مصدر السكينة، ولا تهملي حاجتك الداخلية إلى الراحة والتنفيس، سواء بالدعاء والتقرب الى الله أكثر، أو بممارسة أنشطة تساعدك على الاسترخاء وتهدئة أعصابك.
تذكري أن الإنسان إذا تجاهل احتياجاته النفسية يتعرض للإرهاق والفتور، بينما تلبية هذه الاحتياجات تمنحه طاقة جديدة تمكنه من الاستمرار، فلا تضغطي على نفسك لتكوني المصلحة الوحيدة في البيت، بل أدي ما تستطيعين بقدر طاقتك، ودعي الباقي لله تعالى، فهو الذي بيده قلوب العباد وهدايتهم.
خامسا: التفكير في الزواج:
رغبتك في الزواج أمر طبيعي وفطري، ولا يتعارض مع حبك لأهلك، أو مع ما قد ترينه من تقصير عندهم، بل إن الزواج الصالح قد يكون سببا في راحتك واستقرارك النفسي، وداعما لك في مواصلة طريق الطاعة، فلا تجعلي ما تواجهينه من بعض المشكلات الأسرية حاجزا يحول بينك وبين بناء بيت جديد، قائم على القيم التي تؤمنين بها.
سادسا: خطوات عملية تعينك على إدارة حياتك دون أن تتأذي نفسيا:
• احتسبي الأجر في كل ما تقدمينه لأهلك، واجعلي نيتك دائما ابتغاء مرضاة الله لا انتظار الشكر، أو التقدير من الآخرين.
• نظمي وقتك بحيث توزعينه بين الدراسة، والعبادة، والراحة، والتواصل مع الأهل، مع الحرص ألا يطغى جانب على آخر.
• عودي نفسك على التغافل، وتجاوز بعض المواقف المؤلمة، فذلك يحمي قلبك من التشتت والإرهاق.
• واظبي على الدعاء بإلحاح أن يصلح الله والديك وأخواتك، فالدعاء سلاح المؤمن، وأقوى وسيلة للتغيير.
ابنتنا الكريمة:
أنت على خير عظيم، وما تجدينه من هم هو علامة حياة قلبك، وصدق نيتك، ثقي أن الله مطلع على جهدك، وأن ما عجزت عنه يكتبه الله لك بنيتك، قال النبي ﷺ: ( إن الله كتب الحسنات والسيئات… فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة)، فركزي على نفسك، وواصلي بر والديك، وقدمي النصح بلطف لأخواتك، ودعي النتائج على الله.
ومع الصبر والدعاء ستجدين ثمرة جهدك عاجلا أو آجلا.