كيف أستعيد استقامتي وقد عصيت في وقت مرضي وابتلائي؟

0 13

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أعود إليكم مرة أخرى وقد أنهكني الهم، وأنتم تعلمون أني مررت بفترة مرض صعبة، وبسبب تلك الفترة ثار في نفسي سؤال دائما يتردد، وقد ذرفت الدموع لأجله، وأخشى أن يعاودني اليأس من الحياة والهم والقلق.

السؤال الذي يؤرقني هو: كنت ملتزمة منذ سن الحادية عشرة؛ لم أترك صلاة واحدة، ولم أكلم شبابا، وكنت بارة بوالدي، ولم يمر علي ثلاثة أيام دون أن أفتح فيها كتاب الله، وكنت محافظة على حجابي رغم سخرية من حولي واتهامي بالتشدد أو التصوف.

لكن كل هذا تغير خلال السنة التي مرضت فيها: تركت الصلاة أياما، وعققت والدي، وصرخت على والدتي أثناء نوبات المرض، وكلمت الشباب، وشاهدت مسلسلات، وقد هجرتها منذ أن كان عمري إحدى عشرة سنة.

أتساءل: لماذا وقعت في ذنوب كنت أتحاشاها طيلة حياتي، وأصبح الآن قلبي قاسيا؛ فإذا وقعت في ذنوب لا أحزن عليها كما في السابق، ولا أجد المعصية شيئا عظيما، كأن قلبي تعود على المعاصي وقت مرضي.

لم أكن أريد أن أنحرف يوما، بل جاهدت طوال سنوات المراهقة، لأحظى بمكانة الشابة أو الفتاة الذين نشؤوا في طاعة ربهم، فكيف أستعيد ذلك وقد انحرفت وقت مرضي، وعاودت ارتكاب الذنوب؟ صحيح أني أرجع إلى الله كل مرة، لكن الحسرة والندم لا يفارقاني لوقوعي في مثل هذه المعاصي.

سؤالي: لماذا جعلني الله أقع في هذه المعاصي وقت مرضي، مع أني كنت أتحاشاها في وقت صحتي؟ هل هذا دلالة على أن الله لا يحبني؟ وهل أستحق مكانة من نشأ في طاعة ربه؟ والله إني أشعر بغصة وأنا أكتب لكم هذه الرسالة، وبكيت ليلة البارحة.

لا أريد أن أعود إلى حالتي النفسية السابقة، أرجو منكم الرد جوابا مفصلا، بارك الله فيكم وجزاكم خير الجزاء.

وبالمناسبة: فقد أتممت السنة الثالثة في كلية الطب - رغم رسوبي في مادة الباثولوجي - ولله الحمد سألتحق بالسنة الرابعة إن شاء الله، لكني أتمنى لو لم يؤثر المرض في التزامي وديني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ رحمة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلا بك في إسلام ويب، ونسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك من كل مكروه وسوء، وبعد:

أول ما نذكرك به -أختنا الكريمة- تلك القاعدة العظيمة التي ذكرها النبي ﷺ وهي ستذهب عنك كل خوف، فقد قال رسول الله ﷺ: إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

فحياتك، وصحتك، ومرضك، ودموعك، وحتى لحظات ضعفك، كلها مكتوبة عند الله بعلم وحكمة ورحمة، فلا يخرج شيء من أمرك عن قضائه، وما قدره الله لك فهو الخير، وإن لم تدركيه الآن، ودعينا نجيبك على سؤالك من خلال ما يلي:

1) هل ما حدث دليل على بغض الله؟
ليس البلاء دليلا على أن الله لا يحبك، بل لعله باب آخر آخر لرحمته وعفوه، فالله إذا أحب عبدا ابتلاه، وأنت قد حافظت على الصلاة منذ طفولتك، وحرصت على الحجاب، وجاهدت نفسك في سنوات المراهقة، وهذا كله عند الله مدون في صحائفك.

2) لماذا ظهرت بعض التصرفات في زمن المرض؟
الأسباب كثيرة لكنها كلها تقود إلى تسلط الشيطان وضعف النفس أمامه، فالمرض مثلا قد يضعف الجسد، ويضغط على النفس، فيفتح ثغرات يوسوس منها الشيطان، وربما يضعف له العبد، فيفعل في تلك الحال ما لم يكن يفعله في أيام صحته، وقد لا يكون عن رغبة صريحة في المعصية، بل عن ضعف عارض.

وهذا ليس تحولا عن طريق الطاعة، بل هو فترة ابتلاء عابرة، فالحكمة ليست في الوقوع في تلك الهفوات، بل في الرجوع بعدها بقلب أنقى، وقد قال النبي ﷺ: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.

3) التوبة التي تجب ما قبلها:
التوبة عند أهل العلم تقوم على ثلاثة أركان: الندم، وترك الذنب، والعزم على عدم العود. فإذا تحققت هذه الشروط، صار حالك كمن لا ذنب له، بل إن الله سبحانه يبدل السيئات حسنات للتائبين الصادقين: ﴿إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأو۟لئك يبدل ٱلله سيـٔاتهم حسنـات﴾.

4) طريق العودة بلطف وهدوء:
لا تطالبي نفسك أن تعودي فجأة كما كنت في عمر الحادية عشرة، فإن القلوب تصلح بالتدريج، وهذا برنامج يمكنك السير عليه:

- حافظي على صلاتك في وقتها بقدر استطاعتك.
- قراءة صفحة من القرآن يوميا، أو قراءة القرآن لعشر دقائق.
- قراءة آية الكرسي وآخر آيتين من سورة البقرة، والمعوذات قبل النوم.
- التمسي الدعاء من والديك يوميا.
- تصدقيي ولو بالقليل.
- صلاة القيام في الليل، ولو ركعتين وركعة الوتر.
- جددي النية، واربطي دراستك في الطب بعبادة عظيمة، وقولي كل صباح: "اللهم اجعل علمي رحمة لعبادك"، واعلمي أن القليل الدائم خير من الكثير المنقطع.

5) رد على همك وأسئلتك:
- هل قسوة القلب علامة حرمان؟
لا ينبغي أن نصف ما يحدث معك بأنه قسوة أصيلة، بل هو عارض سيزول بأمر الله، وكثرة ذكر الله دواء، فقد قال ابن القيم: "دواء قسوة القلب كثرة ذكر الله".

- لماذا سمح الله أن تقعي في المعاصي؟
الأصل أن الله يري العبد طريق الخير وطريق الشر؛ قال تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾ أي بينا له طريقي الخير والشر، وعرفناه سبيل الحق وسبيل الباطل، قال تعالى: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾ أي دللناه على الطريق، ثم جعل له حرية الاختيار: أن يشكر أو أن يكفر، قال تعالى: ﴿وقل الحق من ربكم ۖ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر﴾، وهذا إعلان صريح بأن الله أودع في العبد مشيئة، بها يختار الإيمان أو الكفر، لكن الله يعين العبد الذي يريد الوصول إلى الله سالما، قال تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾.

وعليه: فأملي في الله خيرا، وتذكري دائما أن ربك أرحم بك من نفسك، وأن كل دمعة ندم يرفعك بها درجة، وأن كل رجعة بعد ذنب هي ميلاد جديد، فأنت لست بعيدة عن الله، ولم تفقدي حبه، بل إن رجوعك وحرصك وسؤالك اليوم، أعظم دليل أن قلبك حي، والمرض كان امتحانا، وما بعده فرصة لتجديد العهد مع الله، لا لإدانة نفسك.

نسأل الله أن يبارك فيك وأن يحفظك والله الموفق.

مواد ذات صلة

الاستشارات