السؤال
جزى الله الإخوة القائمين على هذا الموقع خير الجزاء، لما فيه منفعة الناس.
أود أن أطرح على حضرتكم أمرا يعكر صفو حياتي منذ مدة، ولا أعلم صدقا ماذا أفعل، الأمر هو أني شاب أريد الزواج والعفاف عما قريب، إلا أني في حيرة كبيرة، وأشعر بضيق في الصدر من وضعي الحالي، الأمر هو أنني أعمل في الخارج (مغترب) بالرغم من أنني لا أحب الغربة، إلا أن للظروف أحكاما، وكل شيء بيد الله، والأرض كلها لله، يرزق أينما وكيفما يشاء، والحمد لله.
في الحقيقة البلد الذي أعيش فيه تكاليف العيش فيه باهظة، من أجور للمنازل، وأسعار السلع، وأخاف إن تزوجت فتاة من بلدي أن يكون تأسيس الأسرة أمرا صعبا، خصوصا أنها ستأتي إلى بلد غريب، بالرغم من أنه بلد عربي، وقد تجد صعوبة في التأقلم، وستشعر بالوحدة، أو مثلا ستجد صعوبة في إيجاد عمل إن رغبت بذلك، فأخاف أن أظلم الفتاة معي في الغربة.
كثيرون قالوا لي: لا ينبغي لك إلا أن تتزوج فتاة تعمل بالأصل، وهي مقيمة في بلد الغربة، بسبب وضعك، وإلا فإن تزوجت من بلدك، فسيكون الوضع صعبا بسبب تكاليف العيش؛ ولأن دخلي الشهري متوسط الحال إلى قليل نسبيا، ولكن المشكلة في البحث عن فتاة في بلاد الغربة ليس سهلا، خاصة أنه ليس لدي كثير من المعارف هناك، وخاصة في غياب الأهل.
أنا في الحقيقة في حيرة كبيرة، ومتخوف من الإقدام على هذا الأمر، خشية ألا أكون قادرا على حق النفقة، وبخصوص المهر وتكاليف الزواج، الحمد لله كلها قمت بتأمينها من خلال عملي، ولكن الخوف من المستقبل بعد الزواج، وكيفية النهوض بالأسرة.
الحمد لله أنا شاب ملتزم، وأصلي، وصليت استخارة عدة مرات، إلا أني لا أزال في توتر وقلق شديد، وضيق، حتى أني قلت لنفسي: ربما ما يقوله الناس صحيحا، وربما الأفضل أن أبحث عن فتاة في الغربة هناك تعمل وتقيم، ولكن الأمر ليس سهلا كما ذكرت سابقا.
أرجو منكم أن تنصحوني وتشيروا علي، ماذا أفعل؟ شكرا، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك أخانا الفاضل في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.
أولا أخانا الفاضل: نحيي فيك حرصك الكبير، على إعداد بيئة أسرية مستقرة وسعيدة؛ فهذا من أعظم مقاصد الزواج التي جاء الشرع لتحقيقها، السكن والمودة والرحمة، كما أن شعورك بالمسؤولية تجاه زوجة المستقبل، وحرصك على إكرامها وتحقيق راحتها، دليل على رحمة في قلبك، وتحمل وعيا بالمسؤولية.
لكن هناك جانب في شخصيتك، يجعلك كثير القلق والتوتر، وهو حساسيتك الزائدة، ومن أثر ذلك ميلك إلى طلب المثالية والكمال؛ لذلك تخشى بشكل مفرط من أي خطأ أو تقصير، لذلك تبدأ بالقلق لمجرد التفكير من احتمال وقوع نقص أو تقصير في المستقبل، مع أنك لم تدخل التجربة بعد، ولا تعلم ما يقدره الله لك، وهذا ما يسمى عند المتخصصين بـ "قلق المستقبل"، وقد قال تعالى: ﴿وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ۖ وما تدري نفس بأي أرض تموت ۚ إن الله عليم خبير﴾.
اعلم أخي الكريم – وفقك الله - أن الخوف في أصله دافع ونافع، إذا قاد صاحبه إلى الاجتهاد في العمل وإصلاح ذاته، لكنه يتحول إلى عائق وضغط نفسي إذا بالغ الإنسان فيه وضخم نتائجه قبل وقوعها، والاعتدال في هذا الباب أن تبذل جهدك في الأسباب المتاحة، وتستفرغ الوسع في الممكن والمتاح، ومع ذلك تجتهد وتحرص على الاعتماد على الله، والتوكل عليه، وحسن الظن به.
وحتى تبدد جزءا كبير من هذه المخاوف السلبية، تحتاج إلى مواجهة مخاوفك عبر أسئلة مباشرة ومركزة، لا تحتمل المراوغة، جرب أن تتأمل في مخاوفك، وتسأل نفسك، ثم تجيب بواقعية وصدق، تسأل مثلا:
• هل من الصعب جدا أن أجد عملا جديدا وراتبه أعلى؟
• هل سنعجز كزوجين عن تنظيم حياتنا لتكون كريمة؟
• هل الكماليات ضرورية أم يمكننا الاستغناء عنها؟
• هل الحياة في الغربة تعني بالضرورة الانعزال الاجتماعي؟
• هل من المستحيل أن نجد منزلا متواضعا يكفينا في بداية حياتنا؟
بهذه الأسئلة وغيرها ستدرك أن أكثر مخاوفك ليست أمورا حقيقية مؤكدة، بل هي احتمالات قد لا تقع أبدا، بل قد يحدث العكس تماما، فقد تتزوج من فتاة من بلد الغربة نفسها ولا تجد عملا، أو تتزوج من بلدك وتفتح لك أبواب الرزق من كل مكان، وقد تكون الزوجة سببا في فتح أبواب الرزق والخير، فتغدو الغربة فرصة جميلة لا عبئا.
فاجعل دائما في قلبك مساحة للأمل، وحسن الظن بالله تعالى، وتذكر أن الله قد يفتح لك من أبواب الخير ما لا يخطر لك على بال، قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)، فخذ بالأسباب الممكنة، واستعن بالله، ولا تدع المخاوف تصل بك إلى حدود العجز والقنوط، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان).
أخانا الكريم: اعلم أن القلق قبل الإقدام على الزواج، وقبل أي قرار مصيري أمر طبيعي، لكنه يصبح سلبيا إذا منعك من المضي، أو دفعك إلى قرارات متسرعة، لذلك اجعل استشارتك لمن تثق بحكمته وتجربته واعتداله النفسي والشخصي، وليس أي شخص يمكن استشارته، وإليك بعض الوصايا العملية التي ستساعدك على تجاوز هذ المخاوف والقلق -بإذن الله تعالى-:
أولا: فكر بواقعية: دون مخاوفك، ثم صنفها إلى مستويات:
- مستوى الكمال (ما تتمنى).
- مستوى الكفاية (ما يحقق لك حياة كريمة بلا إسراف).
- مستوى الضرورة (أدنى ما يمكن أن تعيش به).
ثم ضع حلولا وخططا وتدابير مناسبة وواقعية لكل مستوى، واضبط أهدافك وقراراتك بناء عليها.
ثانيا: أشرك الطرف الآخر: تذكر أن زوجتك شريكة في حياتك، لا مجرد متلقية لعطائك، قد تبدد مخاوفك بحكمتها وتعاونها، وقد تعينك بعمل أو دعم معنوي، فكن صريحا معها من البداية، وبين لها طبيعة حياتك ومخاوفك بوضوح.
ثالثا: خطط للإنفاق: ضع خطة واضحة لنفقات الأسرة، تقوم على التوازن والاعتدال، وأشرك زوجتك فيها؛ حتى تكون داعمة لا عبئا عليك.
رابعا: النفقة بالمعروف: الواجب الشرعي عليك هو الإنفاق بقدر طاقتك، لا بما يفوق وسعك، قال تعالى: ﴿لينفق ذو سعة من سعته ۖ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله﴾، فإذا أنفقت حسب قدرتك، فقد أديت ما أوجب الله عليك، ووعيك بهذا يساعدك على تبديد الكثير من مخاوفك.
خامسا: الخوف من ظلم الزوجة في الغربة: هذا شعور طيب يدل على مسؤوليتك، لكنه لا ينبغي أن يمنعك من الزواج، أو اتخاذ قرارات سليمة، فالمهم أن تكون صريحا معها ومع أهلها، فإذا رضيت بظروفك عن بينة، فلا ظلم عليك.
سادسا: الزوجة الصالحة والاستخارة: القرار ليس في أن تختار فتاة من بلدك، أو من الغربة فقط، بل في اختيار الزوجة الصالحة، التي تعينك في دينك وحياتك، وتقبل أن تكون شريكة لك في ظروفك كما هي، فإذا وجدت هذه الصفات، فتوكل على الله، ولا تجعل الخوف من المستقبل يعطلك، خصوصا أنك قد جمعت مؤنة الزواج، وتحقق لك ما يكفيك، ولو كان يسيرا، لذلك احرص أشد الحرص على اختيار الزوجة الصالحة، التي تتشارك وتتكامل معها فكريا ونفسيا وطموحا، ولا تسع خلف الشكل والمظهر فقط، فالمرأة الصالحة ستكون حريصة على أن تتقي الله فيك، كما تتقي الله فيها، ولن تكلفك فوق طاقتك، أو تغرقك في حياة الكماليات والترف، دون شعور بالمسؤولية، أو استشعار لظروفك المادية.
أخيرا: اعلم أن الاستخارة معناها أن تفوض الأمر لله، ليختار لك الخير، وليس معناها أن تزول كل المخاوف، أو يتحقق لك ما تريد، فقد يكون اختيار الله لك بعلمه وإحاطته المطلقة سبحانه أن ما تريده شر فيصرفه عنك، وهذا جوهر الاستخارة.
أخيرا: أكثر من الدعاء والتضرع إلى الله تعالى في كل وقت، وأكثر من ذكر الله تعالى، وتقوية الصلة به سبحانه، وأحسن الظن بالله، وابتعد عن طلب الكمال في كل أمر، فالكمال لله وحده.
نسأل الله أن ييسر أمرك، ويوفقك للخير ويعينك عليه.