التحرش، وكيف عالج الإسلام سلوك الفرد والمجتمع

0 7

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله.

اليوم وأنا أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، استوقفني منشور نشره أحد زملائي، وكان يكتب فيه: "الخوف من التحرش في الحج هو أكبر دليل على فشل الدين في تكوين الأخلاق."

سؤالي هو: هل فعلا الدين فشل في تكوين أخلاق المتحرش؟

ملحوظة: أنا مسلمة، والكلمة هذه ضايقتني جدا، ولم أعرف كيف أرد على الشخص الذي كتب المنشور، فأحتاج سماع الرد بالدليل، سواء من القرآن، أو من غيره، حتى يطمئن قلبي.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ فرح حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

مرحبا بك أختنا الفاضلة في استشارات إسلام ويب، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل.

بداية، شعورك بالألم من مثل هذه الشبهات، دليل على حبك لهذا الدين، ورغبتك في الدفاع عنه، وتعظيم تعاليمه في نفسك، وقد قال تعالى: ﴿ذٰلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ وقد أحسنت في اللجوء إلى أهل العلم والاختصاص، وعدم الخوض في مسائل لا تجيدين الحديث عنها، ولا تعرفين أساليب من يروجونها من أهل الشبهات والإلحاد، فربما الغيرة تدفع البعض للرد بجهل، وعدم معرفة؛ فيصبح فريسة سهلة لهذه الشبهات.

أختي الفاضلة: كثيرا ما تكون شبهات المشككين والملحدين تنطوي على مغالطات مقصودة، تستغل جهل الكثير من العوام، وتستثير غيرتهم على الدين، واندفاعهم في الرد، ابتداء من تركيب السؤال نفسه، كالتعميمات السطحية، أو الافتراضات غير المنطقية، والحكم بناء على تلك الافتراضات، ثم استخلاص نتائج مليئة بالوهم والهوى، لذلك، عند الرد على أي شبهة، لا بد من تفكيك بنية الشبهة أولا، ومعرفة خلفية ما يريد أن يصل إليه من يطرحها.

الآن: دعينا نفكك هذه الشبهة بهدوء وعقلانية، لنرى أنها أوهن من بيت العنكبوت، تقوم هذه الشبهة وأمثالها على مغالطات وأوهام، وليس على حقائق.

أولا: كشف المغالطات في بنية الشبهة، فالشبهة مصممة بذكاء خبيث؛ لتصدم العاطفة قبل أن تخاطب العقل، وهي تستخدم أساليب مغلوطة أهمها:
- مغالطة التعميم: تأخذ سلوكا فرديا منحرفا (التحرش)، وتجعله حكما على نظام إلهي كامل (الإسلام)، هذا كمن يرى طبيبا فاسدا فيحكم بفشل علم الطب، أو يرى قاضيا فاسدا فيتهم القانون! المنطق السليم يخبرنا أن فشل الفرد في التطبيق، لا يعني أبدا فشل المبدأ نفسه.

- مغالطة قلب المعايير: الشبهة تستخدم قيم الإسلام في (تحريم التحرش ومنع الاختلاط)؛ لتهاجم الإسلام نفسه!
والسؤال: من الذي أصلا حرم التحرش واعتبره فاحشة؟ ومن الذي وضع القواعد والآداب لمنع أسبابه؟ إنه الإسلام، فكيف يتهم الإسلام بالفشل؟ رغم تفرده بتحريم الاختلاط، فهل يعقل أن يبادر الإسلام ليسن القوانين التي تدل على ضعفه أو عجزه؟! هذا أشبه بمن يلوم القانون على وجود المجرمين!

- مغالطة عزل السياق: تتعمد الشبهة تجاهل الطبيعة الاستثنائية للحج والطواف، وتصوره كأنه وضع طبيعي يمكن التحكم فيه بالكامل، هذا التجاهل مقصود لإيهامك بأن الإسلام "عاجز"، بينما الحقيقة أن الوضع له ضروراته التي لا يمكن إغفالها، وسنوضحها.

ثانيا: فهم طبيعة الاختلاط في الحج، فهو ضرورة لا تشريع، من المهم جدا أن نفرق بين أمرين: ما شرعه الإسلام كأصل، وما سمح به كضرورة.

• الأصل في الإسلام هو الفصل بين الرجال والنساء، ومنع أسباب الفتنة ما أمكن، وهذا واضح في النصوص الشرعية، وتطبيقاتها في الحياة العملية، كالصلاة والأسواق والحياة العامة، وما عليه أقوال العلماء والمذاهب قديما وحديثا.

• الحج والطواف حالة استثنائية (ضرورة)، فعبادة الطواف تتطلب من ملايين البشر، رجالا ونساء، الدوران حول بقعة جغرافية واحدة (الكعبة) في أزمنة محددة، هنا، يصبح الفصل التام مستحيلا عمليا دون تعطيل الركن نفسه، أو حدوث مفاسد أكبر.

• تخيلي لو تم تخصيص أوقات للنساء وأوقات للرجال، كيف ستطوف المرأة مع محرمها؟ ولو تم الفصل بحواجز، كيف ستتسع المساحة المحدودة لملايين البشر؟ وما حجم الأضرار التي قد يتسبب بها وجود الحواجز في كل مكان، وأثرها الذي يعيق حركة هذه الأعداد الهائلة من البشر؟ إن الفصل الكامل سيؤدي إلى مفاسد أعظم، وقد يتسبب في حوادث تدافع مميتة، وهذا أمر مشاهد يراه كل من عاش التجربة بنفسه.

لهذا؛ لم يشرع الإسلام هذا الاختلاط، بل تعامل معه كـ "واقع اضطراري" ووضع له ضوابط للتخفيف من آثاره، مثل:
• أمر النساء بالطواف خلف الرجال قدر الإمكان، كما جاء في الحديث عن أم سلمة -رضي الله عنها- وهي إحدى زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: شكوت إلى رسول الله أني أشتكي، فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، قالت: فطفت، ورسول الله حينئذ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ: ﴿والطور وكتاب مسطور﴾، رواه البخاري.

• الحث على غض البصر، والتزام الحشمة والوقار في أقدس البقاع، قال تعالى: ﴿الحج أشهر معلومات ۚ فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ۗ وما تفعلوا من خير يعلمه الله ۗ وتزودوا فإن خير الزاد التقوىٰ ۚ واتقون يا أولي الألباب﴾ فالإسلام هنا لم "يسمح" بالاختلاط، بل "تعامل" مع واقع لا يمكن تجنبه، مقدما قاعدة "ارتكاب أخف الضررين".

ثالثا: هل فشل الإسلام في تهذيب المتحرش؟
هذا هو قلب الشبهة وجوهرها، والرد عليه يكون من زوايا:
الزاوية الأولى: الإسلام منهج هداية، وليس أداة قهر وإجبار، فالإسلام يضع المنهج لتزكية النفوس والارتقاء بها، ويضع منهجا أخلاقيا وتربويا وروحيا لتحقيق ذلك، كذلك يبين طريق الضلال، ويحذر منه، ويعطي الإنسان كامل الحرية للاختيار ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا﴾، وبهذا يتحقق التشريع وتقوم التكاليف الشرعية، فدور الدين هو الإرشاد والتربية لبناء الوازع القيمي والأخلاقي، فإذا اختار إنسان اتباع شهوته؛ فهذا فشله هو كفرد، وليس فشل المنهج، فلا يلام نبي الله نوح عليه السلام، ولا شريعته على كفر ابنه؛ لأنه اختار بقناعة سبيل الكفر والإعراض، وبنفس المنطق لا يمكن لوم الإسلام بسبب فعل متحرش، لم يستجب لتعاليم الإسلام، ولم يسلك طريق الهداية، ولم تتهذب أخلاقه بالاقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعا ۖ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾.

الزاوية الثانية: المتحرش لم يأت من فراغ، هذا الشخص الذي يرتكب هذه الفعلة الشنيعة في أقدس مكان، لم يصبح متحرشا في لحظة الطواف، بل هو أتى إلى الحج بقلب مريض، قلب أفسدته سنوات من إطلاق البصر في الحرام، والبعد عن الله، وكل هذا نتاج طبيعي لمخالفة التعاليم والتوجيهات التي جاء بها الإسلام، فحاله كمن أحضر مرضه معه إلى مكان الشفاء، ففشل في التطهر، فهل نلوم المستشفى إذا رفض المريض تناول الدواء؟ فلو جاء بقلب يريد الهداية ويسعى لها لوجدها، قال تعالى (إنما يستجيب الذين يسمعون ۘ والموتىٰ يبعثهم الله ثم إليه يرجعون).

الزاوية الثالثة: البناء الأخلاقي في الحج والطواف، بنفس منطق هذه الشبهة، لماذا لا يتم التطرق إلى مدى النجاح والتفوق في وجود ملايين من البشر، كل واحد منهم له أفكاره ولغته وثقافته، في مكان واحد وشعيرة واحدة، ومع ذلك تحدث بضع مخالفات لا تكاد تذكر بجوار الكم الهائل من الالتزام والانضباط؟

إن وجود مجموعة أفراد في كم هائل من البشر الملتزمين؛ دليل على قوة وقدرة الإسلام على تعديل سلوك ملايين البشر في مثل هذه الظروف التي يصعب التحكم فيها، والواقع يشهد بذلك، فعند تنظيم بعض الدول لأي حدث مهما بلغت التدابير والاحتياطات، لا بد من وجود مخالفات وأخطاء، ولا يمكن الحكم بفشل التجربة كليا، بل العكس، ضعف وندرة نسبة المخالفات تعكس نجاح التجربة، حتى قيل: "النادر لا حكم له".

أختي الكريمة: المتحرش هو من فشل في سلوك طريق الارتقاء التي بينها الإسلام، الإسلام هو المنهج الكامل الذي نجح في تهذيب سلوك الملايين من البشر، ووجود بعض المنحرفين، أو الانحرافات لا تعني أبدا فشل المنهج والمبدأ.

صاحب هذه المقولة شخص إما ملحد، أو متأثر بالإعلام الغربي، الذي يهاجم الإسلام بلا هوداة، ولكن لو ذهبنا إلى الأرقام المعلن عنها، سنجد أن الغرب لديهم حالات متزايدة في التحرش والاغتصاب، فهم مع انفلاتهم الأخلاقي، والتحرر الجنسي الذي يعيشونه، يعانون من وطأة التحرش والاغتصاب، فهل تحررهم الجنسي خفف من هذه المشكلة؟ وإليك هذه الأرقام عن نسب التحرش والاغتصاب في بلاد الغرب.

في الولايات المتحدة:
81% من النساء و43% من الرجال تعرضوا لشكل من أشكال التحرش الجنسي خلال حياتهن.
1 من كل 5 نساء (20%) تعرضت لمحاولة أو اكتمال اغتصاب.
34% من الرجال تعرضوا للتحرش اللفظي الجنسي.

في أوروبا:
في السويد: أكثر من 200 حالة عنف جنسي مسجلة لكل 100,000 نسمة (2022) و81% من النساء تعرضن للتحرش الجنسي منذ سن 15 عاما.
في الاتحاد الأوروبي عموما: 1 من كل 10 نساء (10%) تعرضت للتحرش الإلكتروني منذ سن 15 عاما، وأكثر من نصف النساء في بعض الدول الشرقية والبلقان الغربية تعرضن للعنف الإلكتروني.
في 11 دولة أوروبية (مثل فنلندا، فرنسا، هولندا): 54% من النساء في فنلندا تعرضن للتحرش الجنسي في العمل، و20-54% في الدول الأخرى.
في المملكة المتحدة: أكثر من 40% من النساء تعرضن للتحرش الجنسي في الشوارع، خلال العام السابق (دراسة 2012).

المصادر الرئيسية تشمل تقارير منظمة الصحة العالمية (2021-2024) يوروستات (2022-2024) ومركز موارد العنف الجنسي الوطني (NSVRC) في الولايات المتحدة.

هذه الشبهة وأمثالها مجرد تشغيب ووهم، مبنية على مغالطات وجهل، تهدف لاستغلال الجهل، وإثارة الشكوك؛ لذلك احرصي دائما على تسليح عقلك بالعلم الشرعي الصحيح، وتحصين قلبك بالدعاء، واللجوء إلى الله أن يريك الحق حقا ويرزقك اتباعه.

وفقك الله وثبتك، وزادك إيمانا ويقينا.

مواد ذات صلة

الاستشارات