السؤال
عرفت من خلال موقعكم قبل أيام فقط ما أعاني منه منذ سنوات طويلة، أدركت أنه وسواس قهري يهجم على رأسي، ويستولي على تفكيري وحياتي، كلما خطوت خطوة نحو الله، إنه بالفعل يقهرني، يؤرقني، ويفسد علي حياتي كلها.
كنت صغيرة حين بدأت هذه الأفكار تراودني، ولم أكن أفهم ماهيتها، لكنها كانت ترعبني بشدة، كانت فترة عصيبة جدا، بكيت فيها كثيرا، وكنت أترقب عقاب الله في كل لحظة، أخفيت كل شيء بداخلي، ولم أجرؤ على مشاركته مع أحد؛ خوفا من أن يكون ما يحدث لي ردة عن الدين، وكنت أعلم أن المرتد يقتل، فارتعبت.
حاولت صرف هذه الأفكار عني، لكنني كنت أفشل، ولم يتحمل جسدي ذلك الضغط، حتى أصيبت قدمي بألم رهيب استمر لفترة طويلة، وظننت أنه عقاب من الله على ما يراودني، المشكلة أن هذه الوساوس كانت تختفي حين أنقطع عن العبادات، وكأنها تقنعني بأن الله يغضب مني أكثر كلما اقتربت منه، أو فكرت في هذه الأمور!
تعذبت كثيرا، وظللت أتأرجح بين القرب والعودة، وبين الابتعاد، وفي كل مرة كان يصيبني الذعر مما يموج في رأسي، وعند اقتراب زواجي، حاولت فسخ الخطوبة؛ لأنني ظننت أن الزواج سيكون باطلا، رغم أنني كنت ملتزمة بالصلاة حينها، لكن الله قدر رغم كل شيء أن يتم زواجي.
الآن، منذ شهرين، رزقني الله بصحوة -والحمد لله-، وقررت أنني لن أترك هذا الذي بداخلي يسيطر علي أكثر من ذلك، وسأقاومه بكل قوتي، بدأت بالصلاة، وأحطت نفسي بكل العبادات التي تعين على الالتزام: الأذكار، والدعاء، والقرآن، أقاومه، وهو يقاومني، وكأننا في حرب، حتى الصلاة أخرج منها منهكة.
مر علي الشهران وكأنهما 20 سنة من عمري، من ثقل روحي، وضيق نفسي، وبكائي، والشعور بالذنب الذي يقتلني، تصاعدت أفكاري حتى أصبحت أبتعد عن زوجي؛ لشعوري بأن كل ما يحدث بيننا حرام، وحتى وجودنا معا في مكان واحد حرام.
اكتشفت في هذه الفترة أن الله منحني رجلا صالحا وصبورا، التزم معي منذ أن بدأت، ويصبر علي كثيرا، رغم أنني لم أجرؤ على تفسير ما أعانيه له، ولو كان غيره، لربما نهرني أو آذاني.
قبل أن أعرف ماهية ما أعانيه، كنت أقول لنفسي: أنت مريضة، وأؤنبها، دون أن أعرف أنني بالفعل مريضة، هربت كثيرا من وساوسي وهواجسي وخيالاتي، جهلا؛ لأنني لم أكن أعرف سببها ولا طريقة التعامل معها، ويبدو أن هذا ما جعلها تستفحل وتستشري بداخلي؛ حتى باتت أفكارا مريضة أكثر من اللازم.
دعوت الله أن يعلمني ويفهمني، ووجدت أمامي سؤالا هنا، فعرفت سبب علتي، لكنني الآن متخبطة ومرعوبة، ساعدوني، وإن كان أمر الطبيب صعبا، فماذا أفعل؟
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ أميرة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك -ابنتنا الكريمة- في استشارات إسلام ويب.
أولا: نسأل الله تعالى لك العافية والشفاء، وأن يذهب عنك شر هذه الوساوس ويزيل عناءها عنك.
ثانيا: نقول -ابنتنا الكريمة-: إنك فعلا أهملت نفسك قليلا وتأخرت بالسؤال والاسترشاد في كيفية مدافعة هذه الوساوس، ولكن الحمد لله أنك هديت إلى الأسلوب الصحيح في مقاومتها ودفعها عن نفسك برجوعك إلى عباداتك والتزامك بالأذكار وقراءة القرآن؛ وهذا هو الطريق الصحيح في مقاومتها، بالإضافة إلى الأمور الآتية التي سنبينها لك.
نقول: إن أول ما ينبغي أن تعتمدي عليه في مقاومة هذه الأفكار: أن تتيقني يقينا جازما أن هذه الوساوس ما هي إلا محاولات يائسة من الشيطان، يريد بها صرفك عن العبادات، فهو قد تيقن أن فيك خيرا كثيرا، وأنك حريصة على دينك، ولهذا لم يستطع إغراءك بطريقة أخرى، فلجأ إلى هذه الوساوس.
وقد جاء في الحديث عند الإمام أبي داود -رحمه الله- من حديث الصحابي الجليل عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه، يعرض بالشيء، يعني يذكر أشياء يجدها في نفسه، لأن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به، يعني: لو خير بين أن يحرق حتى يصير فحما أو يتكلم بتلك الوساوس، لاختار أن يحرق لشدة كراهيته لها، فقال الرسول ﷺ: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة.
فهذا الحديث واضح صريح بأن هذه الوساوس ما هي إلا محاولة من الشيطان، محاولة يائسة، كان يريد أن يضل هذا الإنسان ولكنه لم يقدر على ذلك، فرجع إلى أسلوب الوسوسة.
وتيقنك بهذه الحقيقة يسهل عليك تحقير هذه الوساوس واعتبارها أشياء تافهة لا تستحق منك أي اعتناء واهتمام، وهذا التحقير لها هو أول دوائها، فهي فعلا أمور تافهة ووساوس حقيرة لا تستحق أبدا منك أي اشتغال بها، بل لا يجوز لك التعامل معها والاعتناء بها والعمل بمقتضاها، فحقريها وأهمليها، واعلمي أنك بسلوكك لهذا الطريق ترضين ربك عنك، فإن الله تعالى نهانا عن اتباع خطوات الشيطان، فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان}.
ثم اعلمي ثانيا -ابنتنا الكريمة- أن هذه الوساوس وإن وجدت في قلبك وصدرك فإنها لا تؤثر على دينك ولا تضرك، فإن الرسول الكريم ﷺ قد قال ذلك، جاءه ناس من أصحابه كما في صحيح الإمام مسلم، فسألوه فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، فقال ﷺ: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.
فجعل النبي ﷺ كراهة الإنسان لهذه الوساوس دليلا على أن في قلبه إيمانا، وهو دليل صريح واضح على ذلك، وأنت قد انزعجت انزعاجا كبيرا، وتألمت ألما كبيرا، ووصل بك الحال إلى ما وصفت في سؤالك من المرض بسبب كرهك لهذه الأفكار، فهذا دليل صريح على وجود الإيمان في قلبك، فلا تبالي إذا بهذه الوساوس.
العلاج الثاني الذي أرشد إليه النبي ﷺ قوله: فليستعذ بالله ولينته، فكلما داهمتك هذه الأفكار الجئي إلى ربك، وأكثري من الاستعاذة به سبحانه وتعالى من الشيطان، قولي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، كلما داهمتك هذه الأفكار الوسواسية.
والعلاج الأخير قال فيه: "ولينته"، أي يقطع التعامل معها والاسترسال معها، فداومي على ما أنت عليه من الذكر، واصبري على هذا الطريق؛ فإنك ستصلين -بإذن الله تعالى- إلى العافية.
نشكر لك إنصافك لزوجك واعترافك بصبره عليك، وحاولي أن تصرحي له بهذه المشاعر حتى يقدر لك ما تجدين في صدرك له من الحب والمودة والاعتراف بالجميل، وحاولي أن تعرضي نفسك على الأطباء الثقات الحاذقين في هذه الأمراض، وسيفيدك -إن شاء الله تعالى- إخوتنا الأفاضل الأطباء المستشارون في هذا الموقع سيقدمون لك ما يقدرون عليه من النصح.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يصرف عنك كل سوء ومكروه، وأن يعجل لك بالعافية والشفاء.
________________
انتهت إجابة د. أحمد الفودعي -استشاري الشؤون الأسرية والتربوية-،
وتليها إجابة د. محمد عبد العليم -استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان-.
________________
نرحب بك في استشارات إسلام ويب، ونشكرك على هذه الرسالة الطيبة الرائعة المفصلة، وقطعا الذي تعانين منه هو وساوس قهرية لا شك في ذلك، هي وساوس فكرية مستحوذة، تتغير محتواها من وقت لآخر، وهذه هي طبيعة الوساوس، والذي أعجبني طبعا هو مقاومتك لهذه الوساوس، ومحاولة تحقيرها، ومحاولة تجاهلها، لكن قطعا نسبة لأنها مستحوذة لا زالت تأتيك من وقت لآخر.
وحقيقة أنا حريص جدا في علاج الوساوس القهرية بصورة حازمة جدا، خاصة إذا كان أحد الزوجين مصابا بها ولم يتعالج علاجا صحيحا؛ لأن الوساوس حقيقة تؤدي إلى مصاعب كبيرة جدا في الحياة الزوجية.
جزى الله خيرا زوجك أنه متفهم وصابر، وبقي عليك أن تذهبي إلى الطبيب، لكنك ذكرت أن أمر الطبيب صعب، فإذا كان هذا صعبا -كما ذكرت، وأنا مقتنع بكلامك- أنصحك أن تبدئي الآن في تناول الدواء.
لدينا بفضل الله ورحمته خمسة أو ستة أدوية فاعلة جدا، وأرجو ألا يقنعك الوسواس بأن الأدوية لا تفيد، أو أن الأدوية أدوية إدمانية، وأن هذه وساوس خناسية من الشيطان فما علاقة الأدوية بذلك؟ أقول لك: لا، الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق الناس بها.
قطعا الوساوس لها منشأ بيولوجي، وحتى الوساوس الخناسية -وهي قليلة- قد لا يكون لها منشأ بيولوجي، لكنها في نهاية الأمر تتحول إلى وساوس طبية، وذلك بعد أن يخنس الشيطان؛ لأن المسلم يذكر الله، وحينما يذكر الله يخنس الشيطان، لكن الوساوس تبقى، وذلك من الأثر الكيميائي الذي حدث للإنسان.
فأرجو أن تتناولي الدواء الآن، ومن أفضل الأدوية التي أراها ضرورية في حالتك هو عقار (Sertraline - سيرترالين)، هو من أفضل الأدوية، ويسمى تجاريا (Zoloft - زولفت)، وله اسم آخر (Lustral - لوسترال)، وفي مصر يوجد منتج محلي اسمه (Modapex - مودابكس)، وهو أيضا جيد جدا.
الجرعة هي أن تبدئي بنصف حبة، (أي 25 ملغ) يوميا لمدة عشرة أيام، بعد ذلك اجعليها حبة كاملة (أي 50 ملغ) يوميا لمدة أسبوعين، ثم اجعليها حبتين (أي 100 ملغ) يوميا لمدة شهر، ثم اجعليها ثلاث حبات يوميا، (150 ملغ) يوميا، هي الجرعة المطلوبة في حالتك لهذا النوع من الوساوس، والتي يجب أن تستمري عليها لمدة ثلاثة أشهر.
بعد ذلك انتقلي إلى الجرعة الأقل، وهي أن تتناولي (100 ملغ) يوميا لمدة ثلاثة أشهر، ثم انتقلي إلى الجرعة الوقائية، وهي مهمة جدا في حالتك، وتناولي حبة واحدة، (أي 50 ملغ) يوميا لمدة ستة أشهر، وهذه ليست مدة طويلة أبدا، الوساوس من هذا النوع تتطلب هذا النوع من العلاج.
وبعد انقضاء الستة أشهر، اجعلي الجرعة نصف حبة يوميا لمدة عشرة أيام، ثم نصف حبة يوما بعد يوم لمدة عشرة أيام، ثم توقفي عن تناول الدواء.
هذا دواء رائع وسليم جدا، وغير إدماني، وغير تعودي، وهو سليم أثناء الحمل والرضاعة، وهذه محمدة كبيرة بفضل الله تعالى، وأريدك أيضا أن تتناولي معه دواء داعما جدا يسمى (Aripiprazole - أريبيبرازول)، تناوليه بجرعة (5 ملغ) يوميا لمدة أربعة أشهر، ثم توقفي عن تناوله.
هذه الأدوية أدوية سليمة، الأثر الجانبي الوحيد الذي ربما يحدث من السيرترالين هو أنه ربما يفتح شهيتك نحو الطعام قليلا، وربما تحسين بشيء من الشراهة نحو الحلويات، إن حدث شيء من هذا، فأرجو أن تتخذي التحوطات التي تمنع زيادة الوزن.
هذا هو الذي أنصحك به، وتوجد مجموعة أخرى من الأدوية، أنا أعطيتك فقط ما نسميه بخط العلاج الأول، يوجد خط علاج ثان، ويوجد خط علاج ثالث في الحالات المعقدة، لكن أنا أرى أنك -بفضل من الله تعالى- لديك إرادة تحسن قوية، فالعلاج والتحسن أيضا يتطلب توفر الإرادة، ما دامت إرادة التحسن لديك قوية فإن شاء الله تعالى سوف تكون استجابتك ممتازة جدا للدواء، أرجو أن تستمري في تطبيق نفس البرامج السلوكية، وهي: الرفض التام للوسواس، عدم حواره، تجاهله، تحقيره، وصرف الانتباه عنه، وأرجو أن تتواصلي معنا من وقت لآخر؛ لأن المتابعة أيضا مهمة.
بارك الله فيك، جزاك الله خيرا، وبالله التوفيق والسداد.