السؤال
أنا الآن في حيرة من أمري، لا أحب الخروج للتنزه لمجرد الاستمتاع؛ لأني أرى في ذلك متعة مؤقتة بلا معنى، وتضييعا للوقت، أخرج فقط لأهداف مثل طلب العلم، أو كسب الرزق، ونحو ذلك.
وعلى الجانب الآخر، أرى أغلب الناس يعيشون سعادة أكبر مني بكثير، يخرجون ويتنزهون، بينما أنا عندما أخرج إلى الشارع أحمل هم نصح الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حسب استطاعتي، أشعر أن هذا الأمر يستهلك كل تفكيري؛ لأن بعض المنكرات تكون مفاجئة، وتتطلب قرارا حاسما وسريعا. أرى الناس في راحة، وأشعر أنني غريبة عنهم!
هناك أمر آخر أيضا: أشعر أن الفتاة التي تتبرج وتتزين تنال إعجاب الشباب الوسيمين، أو أصحاب الشخصيات الجذابة، وتكون صداقات معهم، ويبدو أنهم يعيشون سعادة كبيرة.
أما أنا، فبفضل الله ألبس النقاب، ولا أفكر أبدا في التبرج، وأعلم أن التبرج مذلة، لكن لا أعلم لماذا تراودني هذه الأفكار! أشعر أن الشباب يحترمونني كثيرا، ويضعون حدودا واضحة، لكني أشعر أن حياتي تخلو من العاطفة، وللأسف؛ أتمنى أحيانا تكوين صداقات مع الشباب، لكن ما يمنعني هو خوفي من الله فقط.
فهل أنا معقدة؟ وهل الحياة أبسط من ذلك؟ وهل حملي لهم الدعوة أشبه بالوسوسة أم أنه أمر طبيعي؟
أرجو الإفادة، جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ فاطمة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
مرحبا بك أختي الفاضلة في استشارات إسلام ويب، وأسأل الله أن يوفقنا وإياك لصالح القول والعمل، وأن يشرح صدرك، وييسر أمرك، ويجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أختي: سؤالك هذا يدل على خير عظيم في نفسك، وهذا بحد ذاته نعمة عظيمة من الله تعالى، فلا تظني أن حيرتك هذه نقص، أو تعقيد، بل هي دليل على أن الله يبتليك، ويختبر صبرك وإيمانك، كما قال تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون)، وما تشعرين به من غربة، وهم الدعوة هو من علامات صدق الإيمان في زمن صعب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان، الصابر فيهم على دينه، كالقابض على الجمر).
أختي: ينطوي سؤالك على العديد من الاستفسارات المترابطة؛ لذلك سأوضح لك كل نقطة بشكل مستقل، وأسأل الله أن يوفقك لوعيها والعمل بها:
أولا: ما يتعلق بعدم حب الخروج للترفيه والفسح، ورؤيتك إياه تضييعا للوقت؛ إن شعورك بأن المتع المؤقتة بلا معنى هو شعور نبيل، يدل على وعي عميق بقيمة الوقت، الذي هو عمرك الذي ستسألين عنه يوم القيامة، فأنت تحافظين على وقتك للأهداف النافعة كطلب العلم والكسب الحلال، وهذا من أعظم التوفيق، لكن، هل يعني ذلك أن الترفيه محرم أو تضييع للوقت مطلقا؟! لا، بل الإسلام دين يسر وتوازن، يأمر بالعمل والجد، ويسمح بالترويح عن النفس، بشرط أن يكون مباحا، وغير مفرط، أو على حساب أداء الواجبات، أو الوقوع في المحرمات، يقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، فالزينة والطيبات مباحة، لكن باعتدال.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أهمية التوازن في حياة المسلم في حديث حنظلة رضي الله عنه عندما قال له: والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات، والمراد أن الاستمرار في العبادة والذكر بشكل دائم يخرج الإنسان عن طبيعته البشرية ليصبح أشبه بالملائكة التي تسبح وتستغفر وتذكر الله فلا تفتر ولا تتوقف، والإنسان يختلف عن الملائكة لذلك قال: (ساعة وساعة) أي ساعة للذكر والعبادة، وساعة للترفيه المباح، ولا يعني ساعة للطاعة وساعة للمعصية -كما قد يتوهم البعض-، بل حتى المباحات والترفيه لا بد أن يكون بعيدا عن المحرمات والشهوات، وهو بهذه النية عبادة.
أما رؤيتك الآخرين سعداء؛ فتذكري أن السعادة الحقيقية ليست في الشكل، أو المواقف الظاهرة، بل في القرب من الله، قال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة)، فكم من مظاهر خداعة تزين للناس الشهوات والسعادة، وهي خاوية وجوفاء من الطمأنينة والسعادة، فثقي أن سعادتك في التزامك هي أعظم وأدوم، وقربك من الله هو السعادة الحقيقية، فلا تحزني، بل احمدي الله على توفيقه لك، وجربي الخروج لفسح مباحة مع أخوات ملتزمات، لتري كيف تروحين عن نفسك دون تضييع للوقت ودون معاص.
ثانيا: عن حملك هم النصح، والنهي عن المنكر عند الخروج، وشعورك بالإرهاق والغربة: هذا الهم الذي تحملينه -أختي- ليس وسوسة، بل هو من صميم الإيمان، قال الله تعالى: (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين)، وفي الحديث: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وهذا الخطاب لكل مسلم، فعليه أن ينكر وفق قدرته واستطاعته دون أن يفسد، فحملك للدعوة طبيعي وممدوح، وشعورك بالهم والكدر طبيعي؛ لأن النفوس الطيبة النقية تكره الفساد، وتبغض المنكر، وهو دليل على خير في قلبك وهمة عالية في الدعوة، وهذا هو سبيل المؤمنين والصالحين والأخيار من هذه الأمة، قال تعالى: (قل هٰذه سبيلي أدعو إلى الله ۚ علىٰ بصيرة أنا ومن اتبعني ۖ وسبحان الله وما أنا من المشركين).
لكن مقابلة الإرهاق الذي تشعرين به من انتشار المنكرات الكثيرة يحتاج إلى حكمة، فلا يلزمك النهي عن كل منكر ترينه، بل ذلك معلق بحسب الاستطاعة والقدرة على التغيير دون حدوث ضرر أكبر، فإذا رأيت منكرا، انهي عنه بلطف إن أمكن، فإن عجزت عن ذلك، فأنكري المنكر في قلبك، ولا تشاركي فيه، أو تكثري منه، أو تساعدي على نشره؛ فهذا من النهي عن المنكر بالقلب، ولا تحملي نفسك فوق طاقتها، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وإذا شعرت بالغربة، فتذكري حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء)، الغرباء هم الذين يصلحون إذا فسد الناس، فأنت منهم بهذا العمل – بإذن الله -.
ثالثا: ما يتعلق بتفكيرك في الفتيات المتبرجات والشعور بحياة بدون عاطفة، ورغبتك في صداقات مع الشباب:
أختي: إن تفكيرك هذا طبيعي كإنسانة لها عواطف ومشاعر، خصوصا في هذا السن الذي يسبق الزواج، وهو عادة مليء بالعواطف والشعور برغبة شديدة بالاهتمام والحب، لكن الشيطان يستغل ذلك، ويزين المنكر والفساد عبر العلاقات المحرمة ليضعف إيمانك، وخطوات الشيطان تبدأ بتساؤل وحيرة، ثم بإعجاب، ثم تبدأ سلسلة التساهل حتى تنتهي بالترك و-العياذ بالله-؛ لذلك المؤمن إذا حدثته نفسه بهذه الأفكار يبادر إلى أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يبادر إلى أعظم دواء وهو العلم والمعرفة التي تكسبه قناعة قلبية، وروحية ونفسية، ومع العلم يبادر إلى الاجتهاد في بناء سياج الإيمان والعمل الصالح الذي يقوي قلبه لمواجهة مثل هذه الأفكار والشهوات، ومع كل هذا لا يغفل عن الدعاء، والتضرع إلى الله أن يشرح صدره للإسلام وتعاليمه، وقد كان النبي يكثر من الدعاء: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
أما رغبتك في الصداقات مع الشباب؛ فالذي يمنعك هو الخوف من الله، ونقابك الذي يصون حياءك، وهذا توفيق عظيم، نسأل الله أن يثبتك عليه، وكما هو معلوم فالإسلام يحرم الاختلاط غير الشرعي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، فالصداقات هذه قد تؤدي إلى فتنة، ثم الوقوع في الكثير من المخالفات التي تندم عليها الفتاة، وتعيش بعدها في حالة من القلق والخوف والحسرة والندم، وما ترينه من سعادة في هذه العلاقات هو وهم زائل، ومتعة مؤقتة، ولك أن تسألي من عشن هذه التجربة التعيسة، ثم تبن إلى الله تعالى، فما أجمل الحياة في رحاب الطهر والنقاء!
أما العواطف؛ فقد وجهها الإسلام في مسارها الصحيح، فهي موجودة في الإسلام، في الزواج الذي هو سكن ورحمة، قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، فادعي الله أن يرزقك زوجا صالحا يملأ حياتك عاطفة حلالا، وثقي أن احترام الشباب لك وحفظهم الحدود هو أعظم من أي صداقة زائلة.
رابعا: هل أنت معقدة، والحياة أبسط من ذلك؟ وهل حملك للدعوة وسوسة؟
لا يا أختي، أنت لست معقدة، بل أنت ملتزمة بأمر الله، والحياة في الالتزام أجمل وأبسط مما تظنين، قال تعالى: (ما أنزلنا عليك القران لتشقى)؛ فالحياة ليست في الترفيه السطحي، بل في العيش على منهج الله وطاعته، أما حمل هم الدعوة؛ فهو طبيعي وليس وسوسة، إلا إذا أدى إلى إرهاق مفرط، وتشدد وتزمت في الدين، فحينئذ اعتدلي وفق طاقتك، وقدرتك، واستعيني بالله، كما جاء في الحديث: (إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا ويسروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة).
أخيرا: أختي الفاضلة أنت على خير عظيم، ولا تفتحي بابا لوساوس الشيطان حتى لا يصل إلى قلبك، وأكثري من الطاعات والقربات ليقوى قلبك على مواجهة الشهوات، وبادري لطلب العلم الذي يزيل عنك الشبهات، وأكثري من الدعاء أن يرزقك الله التوازن في حياتك، وأن يرزقك الزوج الصالح وسعادة الأسرة.
يسر الله أمرك، وبلغك ما ترجينه في طاعته.