السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أنا شاب متزوج، ولدي ثلاثة أطفال، أشعر دائما أنني أنظر إلى الناس في طعامهم وشرابهم وأشتهيه، ويجري ريقي له، رغم أنني في الحقيقة لا أريده ولا حتى أستسيغه، مهما أكلت أو شربت، لا أشعر بالاكتفاء، وقد بدأت أكره نفسي لهذا السبب، حتى أولادي وزوجتي، أنظر إليهم أثناء تناولهم الطعام، وأحاول جاهدا أن أحيد بنظري، لكن نظري يخونني دائما، وأشعر بالإحراج الشديد لذلك.
بدأت ألاحظ أن أولادي يتجنبون الأكل أمامي، وهذا يؤلمني، أفكر جديا في الابتعاد عنهم، أو حتى الانفصال، كي لا أشعر بالذنب أو الخجل كلما أكل أو شرب أحد أمامي، ماذا أفعل؟ فقد أصبحت حياتي صعبة إلى أبعد الحدود.
جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أيمن حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
نشكركم على تواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا، ونحييك على شجاعتك في طرح هذا الموضوع الخاص والحساس الذي يؤرقك، فهذه الخطوة بحد ذاتها دليل على إرادتك القوية في التغيير، والتخلص من هذا الشعور، وهو أول درجات العلاج.
أتفهم تماما مدى صعوبة هذا الشعور بالانجذاب القسري للنظر إلى طعام الآخرين وشرابهم، وما يترتب عليه من إحساس بالخجل والإحراج والذنب، خاصة أمام أسرتك وأبنائك، هذا التناقض بين شعورك الحقيقي بأنك لا تريد ولا تستسيغ ما تنظر إليه، وبين فعل النظر القسري، هو ما يشعل الصراع الداخلي عندك.
أخي الكريم: هذا الشعور الذي تصفه ليس ضعفا في إيمانك، أو نقصا في رجولتك، بل هو على الأغلب نوع من الهاجس الفكري والسلوكي الذي يسيطر على الإرادة، وقد يكون له جذور نفسية بسيطة تحتاج إلى معالجة، ولهذا يجب أن ننظر إليه من منطلق التكليف الشرعي، وهو غض البصر الذي أمر به الله تعالى: قال تعالى: ﴿قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ۚ ذٰلك أزكىٰ لهم ۗ إن الله خبير بما يصنعون﴾ (النور: 30).
هذه الآية الكريمة تأمر بغض البصر، وهي قاعدة عظيمة تنطبق على كل ما يثير النفس ويشغلها، سواء كان من المحرمات، أو حتى من المباحات التي تسبب حرجا وضيقا، كما في حالتك، وأنت -بفضل الله- تجاهد نفسك لتحيد بنظرك، وهذا جهاد عظيم تؤجر عليه، فاستمر على هذا الجهاد ولا تيأس.
يمكن أن ننظر إلى هذه المشكلة من زاويتين أساسيتين:
1. الزاوية السلوكية والنفسية والهاجس القسري، هذا قد يكون نوعا من "الهواجس السلوكية" أو "الاستجابة الشرطية" غير المرغوبة، العقل يربط وجود الطعام أو الشراب أمامه بضرورة التركيز والنظر، حتى لو لم يكن هناك رغبة حقيقية فيه.
أمر آخر وهو شعورك بالذنب والخجل يغذي المشكلة، فكلما شعرت بالذنب، زاد تركيزك على محاولة التحكم في نظرك، وهذا التركيز المفرط هو ما يجعل النظر يخونك بشكل أكبر، فيصبح حلقة مفرغة.
2. الزاوية الإيمانية والاجتماعية، واستشعار الرضا والنعمة، فالخوف من التباعد عن الأسرة بسبب هذا الإحراج، هو وسوسة شيطانية، هدفها هدم البيت المسلم.
عائلتك هي سكنك، وأولادك هم قرة عينك، قال تعالى: ﴿والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما﴾ (الفرقان: 74) كما أن العلاج الإيماني يكمن في الشكر والرضا، أنت لديك ما يكفيك وأنت في نعمة، فعود لسانك وقلبك على شكر الله على ما في يدك بدلا من التركيز على ما في أيدي الآخرين.
من الأمور التي سوف تعينك -بإذن الله- على التغلب على هذا الشعور وتخفيف وطأته:
• تقنية تحويل التركيز، فبمجرد أن يقع نظرك على طعام أحدهم، قم على الفور بتحويل تركيزك إلى أمر آخر، ليس مجرد تحويل نظرك، انظر إلى وجه ابنك، أو تحدث مع زوجتك في موضوع آخر، أو ابدأ في تناول طعامك أنت بنية الشكر.
• أيضا تغيير وضعية الجلوس أثناء الطعام، اجلس في وضعية تجعل نظرك موجها إلى طعامك، أو إلى زاوية أخرى، وتجنب الجلوس مقابل من يأكل.
• العلاج بالتغذية العكسية، قل لنفسك: (حسنا، سأنظر الآن، ولكن سأنظر لأشكر الله على نعمته)، اجعل هدف النظر هو الذكر والدعاء، لا الاشتهاء.
• أكثر من ذكر الله والاستغفار، اجعل من كل لقمة تراها مناسبة لقول: "اللهم لك الحمد والشكر"، أو "سبحان الله وبحمده". هذا يربط الهاجس بالعبادة لا بالخجل.
• تذكر دائما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"، (رواه مسلم)، أنت الآن في ابتلاء صبر وجهاد، فأنت في خير.
• داوم على دعاء الاستعاذة من شيطان الهواجس، وادع الله بصدق أن يغني قلبك بالرضا والقناعة، وقد أخرج أصحاب السنن من حديث عامر بن ربيعة -رضي الله عنه-: إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة ، فإن العين حق.
• لا تفكر في الانفصال! هذا حل شيطاني، بدلا من ذلك، تحدث مع زوجتك بكل لطف وصراحة عن هذا الإحراج، دون أن تتهم نفسك، قل لها: (أنا أشعر بحرج عندما أنظر إلى طعامكم دون قصد، ولكن أرجوكم لا تتجنبوا الأكل أمامي، ساعدوني بتجاهل الأمر)، حاول أن تشرح لأسرتك بأنك تعيش في معاناة، ولكنك تجاهد نفسك، وأنك تسعى للعلاج، وأن عليهم أن يعينوك.
• في أوقات أخرى غير الطعام، اذكر الموقف بخفة ومزاح لتكسر الحساسية المفرطة حوله، هذا يخفف الضغط النفسي عنك وعن أسرتك.
• داوم على إطعام أسرتك بأفضل ما تستطيع، بقلب راض سعيد، فهذا الإكرام عمل صالح يدحض أي وسوسة حول الحسد، أو قلة الرضا.
• لا نريد أن نسقط في فخ الإسقاطات التشخيصية، فنحن لا نشخص عبر الموقع، ولكن هذه الأعراض السلوكية القسرية قد تكون أحيانا جزءا من حالة نفسية تسمى "اضطراب الوسواس القهري" (OCD) أو مجرد "سمة شخصية وسواسية" تحتاج إلى تدريب سلوكي معرفي.
لذلك، وللأمانة والموضوعية، إذا استمر هذا الشعور بقوة وأثر على حياتك اليومية وعلاقتك بأبنائك وزوجتك، فيلزمك زيارة أخصائي نفسي مؤهل، أو معالج سلوكي معرفي (CBT) للتقييم الدقيق وتقديم برنامج سلوكي متخصص، فطلب المساعدة ليس ضعفا، بل هو اتخاذ لأسباب الشفاء.
أخيرا، تذكر قول الشاعر:
إذا اشتدت بك البلوى.. ففكر في "ألم نشرح"
فعسر بين يسرين.. متى تذكرهما تفرح
أسأل الله أن ييسر أمرك، وأن يشرح صدرك، وأن يهديك سواء السبيل، وأن يرزقك القناعة والرضا، وأن يجعل زوجك وذريتك قرة عين لك، والله الموفق.